مات علي عبدالله صالح ولم تمت ثقافتُه وسياساتُه!
من المعلوم أن الفكر السياسي الغربي قد حسم مسألة المكوث في مراكز القيادة بشكل صارم، فقد قرّر منع بقاء القادة في مناصبهم لأكثر من فترتين انتخابيتين، مهما كانت مواهبهم وعبقرياتهم، ومهما كان إخلاصهم وتفانيهم في خدمة أوطانهم وشعوبهم، وعندما فعلوا ذلك كانوا قد استقرؤوا التجارب والخبرات التأريخية في هذا المضمار؛ فوجدوا أن طول بقاء القائد على كرسي الحكم تنشأ عنه مفاسد كثيرة، بعضها يعود على القائد نفسه من جهة بروز الطغيان وحُب التملك وشيوع الاجترار والتكرار وانعدام الإبداع والتجديد، وتعود بعضها إلى الشعب الذي يألف حاكمه كما يألف السماء، حتى يصعب عليه تخيل البلد بدونه والتعايش مع غيره، وقد يعتنق سِماته وخصائصه التي ستتحول مع طول المدى إلى ثقافة مقدرة، وفقاً للمقولة النبوية المأثورة: (الناس على دين ملوكهم)!
▪وبعد ثلاثة عقود ونصف من الزمن قضاها علي عبدالله صالح في سدة الحكم في اليمن بصورة متفردة، صنع صالح ثقافة فساد واسعة الانتشار وعميقة الجذور، وقد أثّرت على عموم اليمنيين في الحكم والمعارضة معاً، من رشوة ومحسوبية ووساطة، ومن استئثار بالمال العام والتعامل معه بسفه بالغ، ومن استخدام للأكاذيب وتوظيف لشهود الزور، ومن تسلح بالمكائد واستثمار لصنوف المكر المختلفة ضد الخصوم والمخالفين، ومن ضيق شديد بالمخالف في الرأي وتضييق عليه قد يصل إلى حد التخلص منه بالتصفية له، إما على طريقة الخليفة المأمون، وهي الاغتيال المعنوي عبر شراء الذمم بالأموال، أو على طريقة الحَجّاج، وذلك عبر القتل المادي المباشر كما هو ديدن أكثر الطغاة!
▪وبسبب طول فترة بقاء علي صالح في الحكم وإلفة الجماهير له، وامتلاكه للذكاء الفطري وبعض مقومات الشخصية الكارزمية، وتفرده في إدارة شؤون البلاد بكل ما فيها من مؤسسات التربية والتوجيه ووسائل الإعلام وصناعة الرأي العام؛ فضلاً عن الجيش والأمن والسلطات المحلية وخزائن الأموال، فقد ترك بصماته البارزة في بنية الحزب الحاكم الذي صنعه على عينه من خلايا الطامعين والطامحين، ومن مجموعات الخوف من بطش الحاكمين وأذية الفاسدين، وهؤلاء هم الحاكم الفعلي للبلاد رغم قيام ثورة فبراير في 2011 واشتعال أحداث الانقلاب وما نجم عنه من آثار وتداعيات كارثية منذ 4 سنوات عجاف، فرئيس الجمهورية هادي هو ذاته نائب صالح في رئاسة الدولة والمؤتمر الشعبي طيلة ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن، ورئيس الحكومة هو القيادي البارز في الحزب الحاكم، وينطبق ذلك على كثير من الوزراء والسفراء والنواب والقادة العسكريين الذين خرجوا على صالح بعد خروج الشعب ضده، لكن ثقافته كانت قد استقرت في أعماق عقولهم الباطنية بدون وعي أكثرهم!
▪ وامتد أثر الثقافة الصالحية الفاسدة ليصل إلى كثير من قادة أحزاب المعارضة الذين يمارسون العبث بالمال العام بلا رقيب من ضمير ولا حسيب من شعب، ويستخدمونه في شراء الولاءات الضيقة، ويوزعونه على مزيفي الحقائق وبائعي الأوهام وعلى صانعي البطولات الزائفة من رجال الإعلام وصُناع فتاوى الدجل والبهتان، ولا يزال كثير من هؤلاء يُديرون أحزابهم بالأزمات على طريقة صالح الذي يصنع الأفاعي ثم يرقص فوقها، مانعين الانتقال السلس للقيادة إلى الأجيال الجديدة، ومعززين لإجراءات التفرد بصناعة القرار بل والتوريث تحت مبررات أوهى من بيوت العنكبوت!
▪وعلى طريقة اليهود في وراثة ثقافة النازية من خصومهم الألمان، حيث ذكر موشي دايان رئيس أول حكومة إسرائيلية أن اليهود قد تعلموا من هتلر أكثر مما تعلّموا من موسى، على هذه الطريقة نجد أن الحوثيين قد تعلّموا من حليفهم السابق وخصمهم الأسبق علي عبد الله صالح أكثر من غيرهم، فقد تعلموا منه المكر بالخصوم والكيد للمنافسين، بجانب البطش والإجرام المعروف عنهم، حتى أنهم فاقوه في المكر والمخاتلة، حيث كان يُعد لهم الأخدود لكنهم كانوا أسرع فقتلوه قبل أن يصل بهم إلى محطة النهاية!
▪ومن يتمعن في طريقة إدارة الحوثيين لليمن سيلاحظ أصابع علي صالح جلية سافرة في كثير من سياساتهم، إذ أنهم رغم مضيهم في اتجاه ابتلاع البلاد وفق ثقافتهم العنصرية التي تجعل البلاد بكل من فيها وما فيها حقاً حصريا منصوصا عليه من السماء لسلالتهم، إلا أنهم يمارسون إغواء الخصوم وخديعة الوسطاء بتكتيكات لا ينقصها الذكاء، عبر حديثهم الدائم عن السلام ومعاناة المدنيين، وعن تعاملهم الإيجابي مع كل مبادرة تأتي من هنا أو هناك، وتؤكد الحقائق أنهم لا يَنفَكّون عن الخديعة ولا يَكُفّون عن الكذب الذي يجري في عروقهم، لكنهم نجحوا في خديعة قطاعات واسعة من الناس، وذلك بفضل الثقافة الصالحية ذات الملمس الناعم!
▪وبعد مرور بضع سنوات على إزاحة صالح عن كرسي الحكم، وبعد مرور بضعة أشهر على دخوله ثلاجة الموتى، ما تزال سياساته غضة طرية في الواقع اليمني المثخن بجراحها، وما تزال ثقافته تلقى رواجاً منقطع النظير حتى وسط قطاعات عريضة ممن يذمونه إلى حد اللعن، مما يضع مئات العراقيل أمام أي تحول حقيقي في حياة اليمنيين!
▪ويؤكد هذا الأمر أن المشكلات الأساسية تكمن غالباً في الأفكار لا في الأشخاص، وأن تغيير الأشخاص لا يجدي نفعاً إن لم تتغير الأفكار والسياسات، مما يضع مسؤوليات ثقيلة على عواتق دعاة التغيير من قادة وجنود ثورة فبراير، فإن الثورة لن تحقق أهدافها ما لم يتم اقتلاع جذور الأفكار الزّقومية التي تمكّنت خلال عقود من التمكّن في الوعي اليمني ومن الاستفحال في كافة مؤسسات اليمن الحكومية والأهلية بل وفي مؤسسات المجتمع المدني التي تقف على رأسها قيادات من مخرجات هذا العهد المظلم، ولذلك فإن أغلبها مصابة بفصام شديد، حيث تلعن صالح بألسنتها لكنها تَعُضّ بالنواجذ على أفكاره بصورة تثير التقزز والاشمئزاز، فمن لثورة الثقافة وانتفاضة الفكر؟ وأين صُنّاع الوعي؟
وسوم: العدد 792