الناس أمام امتحان الحب نوعان صادق ومدّع والشواهد تصدق أو تكذب
لا يخلو إنسان في هذه الحياة ذكر أو أنثى من أن يدعي حب غيره صدقا أو كذبا . والحب أنواع تفرضها العلاقات والمصالح بين بني البشر . وقد يسمو الحب عند المحب حتى يبلغ نهاية التمام والكمال عندما يدعي حب خالقه سبحانه وتعالى ، أو حب رسله عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، أو حب من توجد صلة بين حبهم وحب الخالق جل وعلا كالوالدين، والأقربين، والأصدقاء، و الجيرة ،والصالحين من العباد والإماء، والذين يلونهم من عامة المسلمين . وقد ينحط الحب عند المحب حتى يبلغ الدرك الأسفل عندما يدعي حب غيره ،وهو إنما ينشد عنده مصلحة قد تكون من الخسة بمكان .
والحكم الفيصل في صدق الحب أو ادعائه شواهد الواقع الدامغة التي لا سبيل لدحضها أو التشكيك فيها أو إنكارها .
وأكثر أنواع ادعاء الحب الذي يكون عرضة للشك والتشكيك هو ما يدعيه الأزواج ، وتكون الحياة الزوجية بينهم هي المحك الذي يكشف صدق أو زيف ما يدعونه من حب بعضهم البعض . وليس الأزواج سواء في الارتباط بعلاقة الزواج التي تلعب الظروف دورا مهما فيها ، وجميعهم يدّعون وجود الحب وراء تلك العلاقة، مع أن الأمر ليس كذلك دائما. ومما يؤكد صحة هذا الطرح كذب وزيف هذا الادعاء خلال مسيرة العلاقة الزوجية ، وقد يحدث ذلك حتى قبل انعقاد تلك العلاقة أو مباشرة بعد أيامها الأولى ، وقد يطول عهدها ويتراخى زمنها، ولكن تكون النتيجة واحدة وهي انكشاف زيف ادعاء الحب وكذبه .
ومعلوم أن قدر الحب بين الأزواج هو لا محالة الامتحان أو التمحيص للكشف عن صدقه أو زيفه ، والحياة الزوجية مليئة بهذا التمحيص المصدق أو المكذب للادعاء .
وكم تكون خيبة المحبوب شديدة ، وصادمة ، ومزلزلة لكيانه الباطن حين يكشف له الامتحان أو التمحيص عن زيف ادعاء حب المحب له ، فتكون النتيجة كفره بالحب ، وشطبه من قاموسه نهائيا ، خصوصا إذا ما طال عهد الادعاء والانخداع به ، وانتهى بالافتضاح وسقط عنه القناع، فصار محض خداع .
وقد يكون بعض الأزواج على يقين من زيف ادعاء حب بعضهم لوجود مؤشرات بينة عليه ، ومع ذلك يقبلون عن عمد وسبق إصرار على ركوب مغامرة الزواج معللين أنفسهم بكذبة أن العلاقة الزوجية كفيلة باحتضان حب لم يكن أو حب متوقع مأمول يوكل أمره للظروف ومستقبل الأيام وهو الذي لم يكن أصلا بينهم قبل الارتباط .
ومن المؤشرات الدالة على ادعاء الحب الزائف بين الأزواج أن يحصل ذلك ليخفوا ما يبطنون من مصالح وراء الرغبة في زواج لا حب فيه بل مصلحة ، وتكون جلية وناطقة بل مكشوفة . ومن أمثلة ذلك أن يموّهوا بادعاء الحب على الطمع على سبيل المثال لا الحصر في الأموال المحصلة إما من إرث أو من مرتب أو تجارة أو من زراعة ، أو الطمع فيما تدره المناصب أو الوظائف من مكاسب أو الطمع في الامتيازات من قبيل تغيير نمط العيش بالانتقال من فقر مدقع إلى ثراء فاحش أو من قبيل الرغبة في العيش في بلدان أجنبية والحصول على أوراق إقامة بها أو التجنس بجنسياتها... إلى غير ذلك من الأطماع التي تكون واضحة وضح النهار ولا غبار يحجبها .
ومع أن الذين يدعون الحب من الأزواج يكونون مسبقا على بينة من زيف ادعائهم المموه على ما يحاولون إخفاءه من مصالح صارخة ومكشوفة ، فإنهم يخوضون عن عمد وسبق إصرار مغامرة الزواج المصلحي المؤسس على زور وكذب المحبة . ومعلوم والحالة هذه أنهم يعيشون على الدوام سواء أقروا بذلك أم أنكروه في شك مستمر فيما هم موقنون كل اليقين من زيفه وكذبه ،و يتوقعون أو يترقبون مجيء اليوم الذي ينكشف الزيف والكذب ، ويسقط قناع المصالح .ولهذا يشتهرعندنا المثل العامي القائل: " الخطّابة رطّابة " والصواب أن يقال : " الخطّابة كذّابة " أي الذين يتقدمون للخطبة تمهيدا للزواج يحاولون تليين الكلام بمعسوله لتحقيق ما يصبون إليه ، وتليين الكلام إنما يكون عن طريق إخفاء ما يبطنون ولا يظهرون من نوايا مبيتة ، وذلك هو عين الكذب .
وليس من السهل أن نصدق ادعاء الرجل الفقير حب المرأة الغنية ، ولا ادعاء العاطل حب الموظفة أو العاملة أو المشتغلة ، ولا ادعاء من لا شهادة له حب صاحبة الشواهد العليا، ولا ادعاء الشيخ حب الشابة ، ولا ادعاء الشاب حب الكبيرة أو العانس، ولا ادعاء الوضيع حب الشريفة والوجيهة ، ولا ادعاء المغمور حب الشهيرة ، ولا ادعاء الحالم أو الراغب في السفر خارج الوطن حب المهاجرة الحاصلة على الإقامة أو الجنسية الأجنبية ، ولا ادعاء الوسيم حب الذميمة ، ولا ادعاء الصحيح حب المريضة ، ولا ادعاء السوي حب ذات العاهة ، ولا ادعاء العالم حب الجاهلة ، ولا ادعاء الأعزب حب المطلقة أو الأرملة ، أو المتزوجة التي تكون في عنق غيره ، ولا ادعاء العفيف حب المنحرفة ، ولا ادعاء المعتدي حب من اعتدى على شرفها وهتك عرضها ،ولا ادعاء المتدين حب من لا دين لها أو من يخالف دينها ديانته ، أو ادعاء عدو حب من يعادي قومها ... إلى غير ذلك من الوضعيات المتناقضة التي يصعب معها تصديق ادعاء الحب لوجود من يدعو إلى الشك فيه بشكل واضح . و يصح العكس أي ما ينطبق على الرجل في أمثلة هذه الوضعيات ينطبق على المرأة أيضا.
ولئن صدق ادعاء حب في مثل هذه الوضعيات، فهو نادر جدا وربما تكون وراءه تضحية ما رغبة في أجر الآخرة عند الله عز وجل وهو خير من مصالح دنيوية زائلة ، أو تكون وراءه رغبة في رد جميل يقيد صاحبه ولا فكاك منه ، وفيما عدا ذلك يكون ادعاء الحب كذبا ولو أقسم من يدعيه بمحرجات الأيمان .
و أخيرا نقول ما أتعس الأزواج الذين يقدمون عن عمد وسبق إصرار على زواج المصالح المموه عليه بادعاء الحب الكذب ، وأكثرهم شقاوة في الحياة من قايض الحب الصادق بالمصلحة ، وتعامل بادعاء الحب الزائف من أجلها حتى إذا ما انقضت المصالح ظهر زيف حبه وكذبه ، وتحول من منخدع بحب من خدعه إلى كاره له يمقته كأشد ما تكون الكراهية والمقت . وما ينطبق على تجربة الحب الزائف الكاذب بين الزوجين يصدق على كل تجربة حب زائف كاذب بين غيرهم من أقارب أو جيران أو أصدقاء أو زملاء ...
فيا من لا زال خارج إطار تجربة الحب الزائف مهما كانت طبيعة العلاقة التي ينشأ عنها ، هلاّ تنكبت هذه التجربة التي مآلها الفشل الذريع لا محالة ، وعاقبتها الندم الشديد ، ولات حين مندم .
وسوم: العدد 794