أشراف دمشق يستنجدون..
إن الدين والأخلاق أساسان أوليان تحيا بهما الأمة الإسلامية، وهذا ما تربينا عليه في سورية، فهما معيار الأشخاص عندنا، فإن اختلَّ مقياس أحدهما توترتْ حياتنا، وضَجَّ أمننا، وتعقدتْ أمورنا، فلا معنى للعيش بدونهما أو أحدهما.
ويوم أمس راسلني أخ عزيز من قلب دمشق، ظهر في أسلوبه الخوف والارتباك، وبدتْ كلماته وكأنها تمدّ يدها برجفة لتلتقف مَنجدَها، ثمَّ شَرَعَ ببثِّ هموم أهلنا في الشام، وما يقاسونه من صعوبة العيش وضيق الحال، فقلتُ في نفسي: هذا الأمر معلوم وأدركه تماماً، وهذا وضع الكثير من أبناء سورية!، فأكمل قائلاً: ليس من الفقر وقلة الأموال وزيادة الحاجة على لقمة العيش وطلباً لرغيف الخبز نشكو، بل من الجهل الذي عَمّ البلاد، والفساد الذي ساد العباد، والكفر الذي أضحى بين ظهراني أهلنا، فقد استشرى الظلم المعرفي والأخلاقي في أبناء شام الرسول فضلاً عن الظلم بكافة أنواعه، عندها أصابني الذهول للوهلة الأولى لما أقرأ، وما عدتُّ أعرف كيف أستزيده بالأخبار، على الرغم من أنه يكتب وأصابعه ترتجف (كما نقل لي)، وعيناه على النافذة خوفاً من أن يرقبه أحد، فيكتب كلمة ويمسحها بعد إرسالها، يُصرحُ مرة ويُلمّحُ مرات خشية أن يُداهمَ مكانه، أو أن يَصطاد حسابه أحد عملاء البعوض الإلكتروني النصيري، فقلت مُتحمِّساً وبنفس الوقت خائفاً عليه: أفصحْ يا أخي أكثر أرجوك، فقال: لقد أضحى الدين عندنا لعبة بيد شيوخ النظام، يَسوقونه حيث تأمرهم تلك الفروع الأمنية الخبيثة، والشعب في حالة هَيجان جاهلي لا مثيل له ولا سابقة، والشباب يَغرقون في كُفر يوشك أن يودي بهم، فالبنات تكاد تُفلت من طاعة والديها، والنساء كادت تنسلخ عن طاعة أزواجها، والشباب في ضياع كبير تحتضنهم الشوارع والأزقة، والطلاب يتعالون على معلميهم، والأبناء يَعقّون أهليهم، وشُرب الدخان بين الأولاد (ذكوراً وإناثاً)، وخَلع الحجاب والسفور والتبرج أصبح من الأمور الاعتيادية، فضلاً على تعاطي الخمر والتحشيش، وانتشار حبوب المخدرات في المدارس، وازدياد الخيانات الزوجية، وتفشي بيوت الدعارة، فأصبحت حدائقنا العامة تعجُّ بالعشاق والممارسات التي لم تعتد عليها دمشق وأهلها، إضافة على فساد جامعاتنا بمختلف أنواع الفساد والجهل، بدءً من الحشيش والمخدرات وصولاً إلى الزنا والتحرش الجنسي، مروراً بالسوق السوداء الخاصة بالجامعة لأسعار المواد والأساتذة والامتحانات، وانتشار المحسوبيات والوساطات، ليس من قبل المسؤولين ورجال الأمن فحسب بل من صغار المجندين في الميليشيات الوطنية، وعناصر الشبيحة وغيرهم.
أما بالنسبة لبعض الملتزمين (المتدينين) فقد انحرفتْ وجهتهم (إلا من رحم ربي)، فلجؤوا إلى التصوف السلبي والتدين المميت للإرادة والسعي للتغيير، ومشابهة الجاهلين في استجداء القبور، والمبالغة في اللجوء إليها، عندما تمردت شيوخهم على الحق واستأسدت بالضلال، فضلوا الطريق وأضلوا من تَبعهم، وكل ذلك يتم بأمر من النظام السوري ويُصنع على عينه، فتلك الطرق مُقرّبة من بلاطه وحياضه، طالما أنها تُبعد الناس عن الطريق الصحيح، والمنهج القويم، بوسائل الغلو والشطح والدجل والضلال.
أما فساد الأخلاق والسلوكيات فقد ثارت تلك الفتن والكبائر، بعد أن خَلت البيوت من الرجال إما باعتقالهم أو باستشهادهم أو بعسكرتهم أو بهروبهم خوفاً من الاعتقال والتجنيد، حيث أخذتْ شبيحة الخائن بالتطاول على أخواتنا، فتحولتْ حواجزهم الأمنية إلى ملاهي، وحراستهم إلى مكاسب دنيئة، فالمرور من الحاجز له ضرائب وقحة، تدفعها بنات شامنا قَسراً (إلا من عصمها الله) وإما تساق إلى غيابات الأقبية، فاضطر ولاة الأمور من الأهالي ممن تبقى من الشيوخ وكبار السن، وبعض النسوة اللواتي يملكن شخصية قوية وكلمة مسموعة في العائلة إلى منع البنات من الخروج من البيت، وبعضهم اختار الهجرة والتشرد على البقاء بين براثن تلك الوحوش، وبعضهم حرمهنَّ من إكمال الدراسة، وهكذا تفنن الشعب المكلوم بشتى الوسائل، للخلاص من تلك الممارسات الماكرة التي تمس الشرف والكرامة، والتي تحمل بين طياتها أساليب النظام في تركيع وتعجيز أهل السنّة، فبتلك الطريقة نشرتْ تلك الثلة الحقيرة الفساد والرذيلة في شامنا، بل تمادت أكثر من ذلك حيث تجرأت عناصر الشبيحة القبيحة بنشر الحبوب المخدرة والبودرة على الشباب والفتيات، فابتزوا بعض الفتيات اللواتي ضعفن أمام آلة الخداع التي يستعملها الجيش والأمن، وهددوهنَّ بفضحهنَّ ونشر صورهنَّ، فنهبوا أموالهن، بل وجندوا بعضاً منهنَّ ضمن مافيات مُنظمة ضمن البلاد، وهكذا فَشتْ الأمراض الأخلاقية بين فئات الشعب، ولم ينجُ منها إلا من عصمه الله وأبعده، والمخفي أعظم من ذلك، وإلى الله المشتكى.
وقد تواترتْ هذه القصص وهذه المعاناة، فكل يوم نسمع قصص الفساد المنتشرة في جميع أنحاء البلاد دون رقيب أمين، بل تنتشر تحت عين ورقابة الخبيث الديوث، الذي رضي الرذيلة في شعبه وأبناء بلده بفأس شبيحته ورعيته المتنفذة، وشيوخه المأجورين.
وقد طلب مني ذلك الأخ وغيره من الشرفاء عبر رسائل متعددة، أن أوصل نجدة واستغاثة أهلنا الشرفاء في الشام إلى كل شيخ شريف، وداعية مخلص، ومسلم غيور، وصاحب قرار نظيف الكف والقلب والفكر داخل البلاد وخارجها، فأستنفر هممهم، وأحرض حَميتهم على أبناء دينهم، وأُثير غضبتهم للدين وللأخلاق وللإنسانية، ليخرجوا عن صمتهم، وليرفعوا القيد عن ألسنتهم، وليفكّوا أغلال أقلامهم، ويحركوا النصرة في جهودهم، للذود عن دين أبناءنا وبناتنا وأفكارهم وأعراضهم وكرامتهم.
ومن ضمن ما اقترحه في رسالته، العمل على نشر العلم بكافة الوسائط والوسائل في الشام، وفضح الفساد وأهله وأشكاله، ودحض الزيوف العقدية، ونشر الفضيلة وبيان طرقها، وبث المعروف وسبله، واستنفرني بأن أُشمّر عن ساعد الجدِّ في أي شيء أقوى على فعله، وبأي مجال وقناة أجد طَرْق بابها، وألا أزهد في أي حلّ يتوقع فيه الرشاد، وأبذل كل جهد أرى فيه الهداية.
هذا ما أضعه الآن بين يدي شيوخنا الكرام أصحاب الهمة في أمتنا جمعاء، من ذوي النخوة والمروءة والشهامة، ومصلحينا ومربينا ودُعاتنا ومفكرينا الأفذاذ، بل وكل فرد حريص على أمته وأبنائها، أرجو ربي أن يأخذوا هذه المناشدات والاستغاثات على مَحمل الجَد والجِد، ويعملوا لأبناء أمتهم ما يصلح حالهم، ليجدوا لهم طريق النجاة من الغرق في بحور الظلمات بين أمواج الموبقات، وربنا سيسألنا جميعاً عن هؤلاء الذين ينتظرون صرخة محب تبعدهم عن الهلاك، وزجرة أخ ناصح تأخذ بأيدهم حيث النور والضياء، وكلمة أديب حاذق يقرع به رؤوس الفساد، وقوانين وأحكام قاضٍ يخشى ربه ويحكم بما أمره به دينه بسنِّ القوانين والأنظمة التي تَدكُّ حصون الظلم والرذيلة، وسياسة محنكٍ فَذ يُوصل همومنا وأمراضنا إلى منظمات حقوقية عالمية، وتلبية رجل شهم يقول إلى ذلك الظالم القابع في أوكار ميليشياته في الشام (استجابة لنداءات أهلها): إن الجواب ما ترى لا ما تسمع. والله من وراء القصد.
وسوم: العدد 796