لا تنسوا الفضل بينكم
كانت الزوجة تحدّثني عن خلافها مع زوجها بعد مُضيّ شهرين على مغادرتها بيتها إلى بيت أهلها. طلَبت مني أن أسعى لها في أن يقوم زوجها بإرجاعها إلى بيتها دون أن أذكُر له أنها طلبت مني ذلك. وحين اتصلْتُ بالزوج لأسمع منه روايته حول الخلاف الذي ثار بينه وبين زوجته وأدّى إلى مغادرتها بيتها طَلَب مني الطلب نفسه: ألا أُخبر زوجته بأنه مشتاق إليها ويتمنى أن ترجع سريعاً إلى بيتها.
تكرر هذا في مصالحات كثيرة، كِلا الزوجين يريد أن يَرجع إلى صاحبه دون أن يعرف الآخر برغبته هذه، ليظهر أن الآخر هو الذي يسعى إليه، أي أن كُلاً منهما يريد أن يعلو على صاحبه، وأن يصالحه من فوق!
ولاشك في أن هذا مِن النشوز الذي يخافه الرجل في امرأته، قال الله تعالى: «وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ» النساء- 34، وتخافه المرأة من زوجها: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا» النساء- 128. والنشوز هو الارتفاع؛ فالنَشز: ما ارتفع من الأرض، ونَشَزَ الشيء نُشزاً ونشوزاً: ارتفع. ونشزت المرأة: تمرَّدت على زوجها واستعصت. ونشز الرجل على المرأة: أساء عِشرتها وجفاها وآذاها.
إن استعلاء كلا الزوجين على صاحبه يُعَطِّل المصالحة؛ لأنه لابد من أن يخفض كل منهما جناحه لصاحبه، ويلين له، ويُظهِر رغبته في عودته إليه. وطبعاً فإنِّي لا أستجيب لهؤلاء الأزواج والزوجات، بل أفعل العكس من ذلك، فأنقل ما يُليّن قلب كل منهما للآخر، فأذكر له أنه يُحبّه، ويحمل له في قلبه كل مودة، وأنه يرغب في مصالحته.
ولنا في النبي «صلى الله عليه وسلم» أسوة في ذلك؛ فحين أَمَرهَ الله تعالى أن يُخيِّر نساءه أمهات المؤمنين بقوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)». الأحزاب، بدأ «صلى الله عليه وسلم» بعائشة رضي الله عنها فقال لها: (يا عائشة إني أُريد أن أعرض عليكِ أمراً أُحبّ ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويكِ. فقالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، فقالت: أفيكَ يا رسول الله أستشير أبويَّ؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة؛ وأسألك ألّا تُخبر امرأة من نسائك بالذي قلتُ.
قال «صلى الله عليه وسلم»: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها؛ إن الله لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً ولكن بعثني مُعلِّماً مُيسِّراً). صحيح مسلم.
فالنبي «صلى الله عليه وسلم» لم يستجب لطلب عائشة عدم إخباره أمهات المؤمنين باختيارها الله ورسوله، وذَكَر حكمة ذلك بما بعثه الله سبحانه عليه، وهو التعليم والتيسير، وعليه أَقِيسُ عدم استجابتي لما يطلبه مني أحد الزوجين بعدم إخبار الآخر أنه راغب في مصالحته، بل أحرص على إخبار كل منهما بأن الآخر يرغب في مصالحته وأنه يُحبّه.
وحتى الكذب والزيادة في الكلام بالخير للمصالحة بين الزوجين أباحه «صلى الله عليه وسلم»: أخرج مسلم في الصحيح من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: (لم أسمع يُرَخَّصُ في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).
إن ما بين الزوجين مودة ورحمة وليس غَلَبة وسيطرة، ولن يُفلِحا وينجحا ويتآلفا إذا لم يُدرِكا هذه الحقيقة، فيُخفِض كل منهما جَناحه لصاحبه، ويُبدي رحمته به، وحُبّه له، وحِرصه عليه.
وأكثر النزاعات الزوجية بسبب هذا النشوز الذي ذَكَرَه الله تعالى في قرآنه الحكيم، هذا الارتفاع الذي لا يتفق مع تشبيهه سبحانه لما بينهما بما بين اللباس وصاحبه، قال عزّ وجل: «هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ»، فالّلِباس يُلامس الجسد ويلتصق به ويُدَفّئه، ويستره ويُجمّله، ومن يرتدي الّلِباس يحرص على نظافته، ويختاره على قياسه، ومنه ما ينام فيه، ومنه ما يخرُج به ليُقابل الناس.
كما أن الله سبحانه يأمر الأزواج، من رجال ونساء، أن يذكُروا ما بينهم من فضل: «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»، ولو تذَكّر الزوجان ساعات المودّة وأيام الحب، وليالي الأنس، وما سمعه كلاهما من صاحبه من كلام طيِّب، وما قدّمه له من عَوْن، وما رُزِق منه من وَلَد؛ لما نَشز عليه، ولمّا تحدّاه وعانده، ولما سعى إلى كسره وقهره وإذلاله. فيا أيّها الزوجان؛ خيركما من يبدأ صاحبه بالسلام، ويُبدي المودّة والوئام، ويبتغي في ذلك رِضا رَبّ الأنام.
وسوم: العدد 798