الأدب العالي في سيرة السيد الأكمل صلى الله عليه وسلم
في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ، يبرز رجال عُرفوا بواحدة أو أكثر، من مكارم الأخلاق، من كرم ووفاء وشجاعة وصبر وحِلْم... ولو دقّقنا في حياة كل منهم لوجدنا جوانب أخرى سلبية، أو في أقل تقدير، لم تبلغ الدرجة التي تستحق الفخر. لكن الأمر ليس كذلك عندما ننظر في سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كَمُلتْ فيه خصال الخير، و(اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالته). {سورة الأنعام: 124}.
ولو أردنا أن نَنْظُمَ خصاله في سلك لقلنا: إنه الأدب العالي: الأدب مع الله تعالى، ثم الأدب مع الخَلق.
أما أدبه مع الله فقد لا يحتاج إلى كثير حديث. أليس أكرمُ البشر من اكتملتْ عبوديته لله: حبّاً وخشيةً وطاعةً وإخباتاً؟. فمَن مِن البشر من حاز السبق في هذا كله؟!.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقالت عائشة: لِمَ تصنعُ هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟. قال صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟". متفق عليه.
وفي حديث الثلاثة الذين سألوا عن عِبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنّهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر؟!. فعزم أحدهم على أن يصوم ولا يفطر، والآخر على أن يصلي ولا يرقد، والثالث على أن يعتزل النساء، وبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوّج النساء. فمَن رغب عن سنّتي فليس مني". متفق عليه.
ولْننظرْ في الحديثين، وهما في غاية الصحة، تكرار عبارة أن الله تعالى قد غفر للنبي صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وإذاً فإن استغراقه صلى الله عليه وسلم في العبادة هو ثمرة كمال العبودية: حبّاً وخشيةً وخضوعاً، وهو التطلع إلى مقام العبد الشَّكور، وقد بَلَغَه، صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الثاني خاصةً بيانُ أن مسلك النبي صلى الله عليه وسلم هو الأكمل، فلا يحسَبَنَّ أحدٌ أنه إذا زاد على ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فقد أتى بخير، بل الخير كل الخير في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام، وما من أحد يزيد في شيء، مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، إلا نَقَصَ في أشياء أخرى.
وننظر إلى قضية تبدو بسيطة، لكنها مثال الأدب الكامل مع الله، فقد نَقَشَ النبي صلى الله عليه وسلم على خاتمه عبارة: محمد رسول الله، فجعل كلمة "محمّد" في الأسفل، وكلمة "الله" في الأعلى. فأيُّ أدبٍ هذا؟!.
أما أدبه صلى الله عليه وسلم مع الخَلق فنذكر نُبذاً تشير إلى عظيم وفائه ورحمته ولطفه وذوقه:
في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: "ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة، وما رأيتُها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ ذِكرها، وربما ذبحَ الشاةَ ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة".
قال النووي: وفي هذا الحديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الودّ، ورعاية حرمة الصاحب...
وفي صحيح البخاري أن مالك بن الحويرث وأصحابه جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبقُوا عنده أياماً. قال مالك: وكان رسول الله رحيماً رفيقاً، فظن أننا قد اشتقنا إلى أهلنا فسألنا عمن تركناه منهم فقال: "ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا عندهم، وعلّموهم...".
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فوالله ما قال لي: أفٍّ، قطّ. ولم يقل لشيء فعلته: لمَ فعلتَ كذا؟ ولا لشيء لمْ أفعله: ألا فعلتَ كذا!.
وفي صحيح البخاري أن امرأة ماتت، كانت تقُمُّ المسجد، وحقّر الناس من شأنها، وصلّوا عليها، ودفنوها بليل. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قبرها ويصلّي عليها.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأدخُلُ الصلاة وأنا أريدُ إطالتها، فأسمع بكاء الصبيّ، فأتجوّز في صلاتي مما أعلمُ مِن شدّة وجْدِ أمّه من بكائه".
والأحاديث في أدب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة كثيرة، وفيما ذكرنا إشارة إلى عظيم أدبه وذوقه، في تعامله مع الخالق سبحانه، ومع الخلق، فلا عجب بعدئذ أن يتخرّج في مدرسته أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبي هريرة... رضي الله عنهم. ثم أليس هذا ترجمةً عمليةً لشهادة الله عز وجل حين خاطب نبيّه: (وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم). {سورة القلم: 4}.
وسوم: العدد 798