الأخطاء التقليدية أثناء الترافُع عن الإسلام ضدّ الغرب!

من خلال استقرائي لجملة من الكتابات التي انتصبت للدفاع عن الإسلام والمسلمين أمام الهجمات التي يشنها الغربيون وأذيالهم من المسلمين وكذا من يظن بعض المسلمين أنهم من المنبهرين بالغرب، وجدت أن هؤلاء يرتكبون عددا من الأخطاء المنهجية والفكرية، ويمكن تلخيص أهمها على النحو الآتي:

1- ممارسة التطفيف الفكري:

لا شكّ أن الحضارة الغربية مليئة بالثقوب الفكرية والعيوب الفعلية، غير أن أكثر المسلمين يمارسون في نقدها صورة من صور التطفيف الفكري وهي آفة يعانون منها في زمن الجدب الفكري والقحط القيمي، والتي تتبدّى من خلال المقارنة بين حياة الغربيين وبين الإسلام، وهي مقارنة غير متكافئة ولا عادلة فالإسلام دين رباني في منتهى الرّوعة والكمال، بينما تحتكم حياة الغربيين إلى ثقافة وضعية تواطأ عليها كبراء القوم، وكان العدل يقتضي مقارنة الحياة الغربية بحياة المسلمين في هذا الزمان والذين ينتسبون إلى دين عظيم، لكنهم جعلوه أشبه بالدين اللاهوتي الذي ينظم علاقة الإنسان بالله فقط، فلقد أظهر تديّن أغلب المسلمين صورة متخلفة من العلمانية التي تختزل الإيمان في عدد من الشُّعَب الإيمانية ذات الصلة بعالم الغيب بينما خرجت أنحاء واسعة من جوانب الحياة من مسمى الإيمان، وتم تضييق دائرة العبودية لله عند هؤلاء لتشمل حقوق الله وبعض الحقوق للأفراد لتخرج كثير من القيم الحضارية من هذه الدائرة، حتى وجدنا صوراً بشعة من الانفصام الغريب بين عبودية الله في محراب الصلاة وعبوديته تعالى في محراب الحياة، حيث وجدنا من ينفعل ويثور كالنار في محراب الشعائر لكنه بارد كالثلج في محاريب الشرائع، حتى أنه لا يتورع عن الاحتكام إلى قوانين وقواعد وأعراف ما أنزل الله بها من سلطان، بل قد تتصادم مع مقاصد الإسلام وكليات الإيمان وأصول الشريعة، مما أدى بالضرورة إلى خروج السياسة والاقتصاد والفن والأدب والفلسفة من دائرة العبودية الكونية لله تعالى، وصار المسلم يذهب إلى المدرسة والجامعة والمؤسسة والشركة والمزرعة بروح تختلف عن تلك التي يحملها وهو ذاهب إلى المسجد، ولذلك لم نجد التميز الإيماني الحق للطالب في مدرسته والأستاذ في جامعته والتاجر في شركته والمزارع في مزرعته والإعلامي في مؤسسته، حيث يتلبس أكثر هؤلاء بصور من الغش والخداع والكذب والخيانة تتناقض مع مضمون الإيمان وتفوق في بعض الأحيان ما يحدث عند غير المسلمين!

2 - الخلط بين البُعدين الحضاري والاستعماري:

ينظر كثير ممن ينقدون الغرب إليه ككتلة صلدة واحدة، متجاهلين أنه منظومة ضخمة ومُعَقّدة من الفلسفة والفكر والقيم ومن العلوم والآداب والفنون، وعلى الأقل فإن له وجهين رئيسيين:

1 - الوجه الحضاري:

وهو الجانب الذي اتكأ على كثير من القيم والأخلاق الطيبة، حيث تسلَّح بالمعرفة والبحث العلمي، وتَزيَّن بالحرية والكرامة الإنسانية، وتَقَوَّى بالعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية.

2 - الوجه الاستعماري:

وهو الجانب الذي استثمر القوة الداخلية الناتجة عن القيم والأخلاق الحضارية في تعزيز الهيمنة الخارجية، حيث جعل إمكاناته الذاتية الناتجة عن تقدمه الحضاري أدوات لصناعة مكانة له ولو على جماجم المستضعفين؛ من خلال السيطرة على ثروات الشعوب بالاحتلال العنيف، وهيمنته على مقدرات الأمم بالغزو المسلح، وسعيه الدائب بكل ما أوتي من قوة لتغيير معتقدات وقناعات الشعوب عبر القَهْر والقَسْر بل والإبادة الجماعية كما حدث مع الهنود الحمر في قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية!

إن بين الوَجهين بُعد المشرقين لكن أصحاب العَشَى الفكري والذين يبخسون الناس أشياءهم يتسلّحون بالوجه الاستعماري لإنكار الوجه الحضاري، وهم إنما يغالطون أنفسهم ويَخدعون مجتمعاتهم بهذا الخلط الشديد، إذ أنهم يضعون أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع منظومة الغرب الضخمة بكل ما تمتلك من قدرات وطاقات وفاعلية، مع أنه كان بالإمكان الاستفادة من التيارات الإنسانية أو تحييدها على الأقل في المعركة مع تيار الهيمنة والاحتلال، ثم إنهم يَحرمون أنفسهم من إمكانيات اقتباس الإيجابيات الحضارية والاعتبار من سلبياتها وهي عِلَل الحضارات التي تتجسّد في الممارسات بصورة أوضح وأنصع منها في الجوانب النظرية، وقبل ذلك فإنهم يتنكرون لقيم الإنصاف التي تجد لها مكانة مميزة في القرآن الكريم، كما قال تعالى: {ولا يَجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى}، هذا في الإطار التنظيري أما في الجانب التطبيقي فقد وجدنا القرآن يقول عن كفار قريش الذين فتنوا الصحابة وأخرجوهم من ديارهم ومنعوهم من الاعتمار إلى بيت الله الحرام: {ولا يَجْرمَنّكم شنآنُ قوم أن صَدّوكم عن المسجد الحرام أن تَعتدوا وتعاونوا على البِرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.

وقبل هذا وبعده فإنهم يبخسون الغربيين أشياءهم الجميلة ومنجزاتهم المقدّرة، رغم أن الله ينهى عن ذلك بشكل واضح وصورة قاطعة كما في قوله تعالى: {ولا تَبْخَسوا الناس أشياءهم}، فهل إنتاجهم لقنبلة نووية واستعمالها ضد اليابانيين في الحرب العالمية مبررا لإنكار منجزاتهم الإيجابية في الفيزياء مثلاً؟

3 - ضعف مفردات الموضوعية:

تعاني قيمة الموضوعية من ضمور شديد في حياة المسلمين، حتى تجد عامتهم يثنون ثناء شديدا على أحدهم ما اتفق مع قناعاتهم واقترب من مُسلَّماتهم، حتى إذا ابتعد قليلاً عن ذلك ولو كان اجتهاده صحيحاً قلب له هؤلاء ظهر المِجَن وبهتوه بهتاً شديدا وقالوا فيه (ما لم يقله مالك في الخمر)، ولربما شَيْطنوه بالكامل بل وبأثر رجعي!! أما إذا تعلّق الموضوع بالغربيين فالأمر بلا شكّ أشدّ وأنكى؛ نتيجة حروب هؤلاء ضد المسلمين وتآمرهم على صلحائهم بالتعاون من أنظمة الجور والفساد التي تمكنهم من رقاب الأحرار وتضع خيرات الأمة في سلالهم التي لا تعرف الامتلاء!

ولا شكّ أن البُعد عن الموضوعية والإنصاف يؤدي إلى تحويل الأخطاء إلى خطايا وتقديم المزايا في صورة رزايا، ويتم بسببه تكبير الصغائر وتصغير العظائم، ويؤدي إلى التعمية على الإيجابيات وإبراز السلبيات، مع حرص شديد على ممارسة التعميم في الوصف والتحليل والنقد، فعندما يتم الحديث مثلاً عن الأخلاق في الغرب يتم الحديث عن انحطاط أخلاقي مريع مع حرص على تضييق دائرة الأخلاق لتخرج منها الأمانة والصدق والإتقان والتماسك الاجتماعي وهي قيم حاضرة بقوة في المجتمعات الغربية ويعتبرها الإمام حسن البنا الأسمنت المسلح في معرض حديثه عن غنى المجتمعات الغربية بها وفقر المجتمعات الإسلامية إليها، ويحدث هذا كله رغم أن القرآن عندما تَحَدّث عن أشد الناس عداوة للمؤمنين، وهم اليهود الذين يُعدّون أخبث الخلق، قد قال: {ليسوا سواءً..}، ومضى يُعدّد طوائفهم ومواقفهم مبرزاً الفروق بينهم حيث أكثَر من القول: منهم ومنهم، ولم يضعهم أبداً في سلّة واحدة ولم يطلق عليهم حكما عاماً في أي مقام!

4 - الخلطُ بين الوَلاء المَرفوض والاقتباس المَفروض:

من يفقه هذا الدين يدرك بوضوح أن هناك فرق كبير بين الولاء لغير المسلمين وحبهم وبين الاستفادة من خبراتهم الفكرية ومنجزاتهم الحضارية، فالولاء حُب بالجوانح ونصرة بالجوارح وهذا لا ينبغي أن يكون إلا للمؤمنين، والثاني استفادة من الإيجابيات واعتبار من السلبيات وهذا ينبغي أن يكون مع كل أحد، فقد أوضح القرآن نفاسة الخبرات فقال: {ولا يُنبِّئك مِثلُ خَبير}، وأمر بالاستفادة من أهل التخصصات فقال: {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون}، وأهل الذكر هم أهل الخبرة والدّراية ذلك أن العلم والخبرة يمنحانه شرفاً كبيراً. ولا شك أن تعاليم هذا الدين تُحرّم الولاء لغير المؤمنين وتجعله أمرا مرفوضاً بصورة قطعية بينما تُحتم تلك التعاليم والقيَم على المسلمين الاستفادة من الخبرات الحضارية لغيرهم وتجعلها أمرا مفروضاً، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحَقّ الناس بها)، ولا شك أن المنهج التجريبي الذي أثمر استخراج معادن الأرض وطاقاتها وأنجز مئات الأنواع من الصناعة بجانب الترقي بالتجارة والزراعة، والتي أدّت بمجملها إلى تحقيق الرفاهية للإنسان وخدمة حقوقه وحماية ضرورياته الخمس، لا شكّ أنها كلها من الحكمة التي ينبغي اقتباسها، ولا ريب أن الديمقراطية بآليات الانتخابات وصناديق الاقتراع وتحديد مدة الرئاسة بفترتين وفصل السلطات عن بعضها، كل ذلك من الحكمة التي مَنعت إسالة الدماء في الصراع على كراسي الحكم وجعلت السلطة مغرماً أكثر من كونها مغنماً، حيث خلّصتها من جاذبيتها ودفعت الناس نحو الزهد بالسلطة والاتجاه بالطاقات نحو التشييد والبناء.

والغريب أن الذين يخلطون في هذا المضمار يستدعون نصوص الولاء في مقام تحريم الاقتباس، حتى وجدنا من يستدل على حرمة الديمقراطية بقوله تعالى: {ولن تَرْضَ عنك اليهود ولا النصارى حتى تَتّبِع مِلَّتَهم}، كأن الديمقراطية اختُرعت خصيصاً لحرب المسلمين، وربما كان الأمر مقبولاً لو أن الغربيين يفرضون الديمقراطية بالقوة على بلدان المسلمين، فواقع الحال يقول بأن الغرب الاستعماري يَحول دون دَمْقَرَطة بلدان المسلمين؛ لأن ذلك سيمنع الصراع على السلطة ويحقق رضى الجميع ويوفر قوتهم لمضامير البناء والنهوض، وسيجعل الحكام يتنافسون على إرضاء الشعوب واحترام عقائدها وحرياتها وحقوقها، وقد دعم الغرب بكل قوته وبصور ماكرة انقلاب السيسي ضد الديمقراطية في مصر وانقلاب العسكر قبل ذلك على جبهة الإنقاذ في الجزائر وعلى حماس في فلسطين وعلى النهضة في تونس، وفعل كثيرا مثل ذلك ضد الديمقراطية التركية من قبل ومن بعد!

وسوم: العدد 798