بهلوانات في فرنسا

ومفتاح العبور لكل عاهر داعر أخرق ليحظى برقصة خليعة أمام فخامة الرئيس

كنت أطالع بعض ما كتب المختصون حول أساليب توجيه الرأي العام، سواءً كانت الأساليب التقليدية أو المستحدثة، إلا أنني لم أجد منها ما يمكن اعتباره نمطًا للإعلام المصري الموالي للنظام الانقلابي في تناوله لشتى القضايا الداخلية والخارجية.

بينما أتابع ردود الأفعال في الإعلام العربي حول المظاهرات التي اندلعت في فرنسا احتجاجا على الضرائب التي فرضتها الحكومة على الوقود وغلاء المعيشة، لم أرَ في تناول الإعلام المصري لذلك الحدث سوى أنها حركات بهلوانية لتسلية النظام، لأنها تخلو من أي منطق يمكن أن يُخاطب به حتى سفهاء الناس وغوغاءهم، فهو يستغل الحدث الذي يوصف بأنه مطالب فئوية لدعم نظامه المُهترئ وترقيع خروقه التي تزداد رقعتها اتساعا يومًا بعد يوم، ويقوم بمحاولة فاشلة لتلميعه وتحسين صورته في ظل فشله المفضوح، يستغله بصورة تعسفية، ولا يستحي من عرض الإسقاط المضحك الذي لا ينطلي على أحد.

فلو رأيت إعلاميي النظام السيساوي الدموي وهم يتكلمون لقلت أنهم يظهرون في البرامج بعد جرعة مكثفة من مخدر الاستروكس الذي يُحوّل مُتعاطِيه إلى زومبي.

بعضهم يستخلص للجماهير درسًا هامًا من الاحتجاجات التي اندلعت في فرنسا، وهو أن مصر أفضل من فرنسا. لماذا أيها الجهبذ؟ 

برر الإعلامي الفذ رؤيته الثاقبة بأن الشعب المصري الذي يؤهل نفسه كل ليلة لخبر يأتيه في الصباح بارتفاع الأسعار، قد تحمّل ولم يفعل ما فعله الشعب الفرنسي الذي ثار لارتفاع أسعار الوقود، ففي مصر كما نتابع ارتفاع مسعور لأسعار كل شيء في مصر عدا المواطن المصري، ومع ذلك لم تقم ثورة ولم تندلع احتجاجات ومطالب فئوية!!!!

صدق النبي صلى الله عليه وسلم (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فهم كاذبون أولا وآخرًا من بداية الحكاية إلى نهايتها، ويعلمون أنهم كاذبون، ويعلمون أن الناس يعلمون أنهم كاذبون، ومع ذلك يستمرون في التدليس والمحاولات الغبية لطمس البصيرة الشعبية.

أخبروا معتوه قومه، أن المصريين صامتون على نهب ثروات وطنهم وضنك العيش وغلاء الأسعار لأن البديل الأوحد عن الصمتَ هو القتل أو الاعتقال.

المصريون صامتون لأن النظام المُستبد قد وضع في جيبه مؤسسات الدولة الصلبة من جيش وشرطة وقضاء وإعلام، وقضى على كل من لديهم القدرة على التثوير بالقتل أو السجن أو التشريد، فمِنْ ثَمَّ يرى الشعب أن الاحتجاج على الظلم نوع من الانتحار.

المصريون صامتون لأن النظام ابتدأ عهده بمجزرة العصر في رابعة والنهضة بهدف قتل كل توجُّهٍ ثوري في مصر، ليظل المصريون دائما وأبدا بعيدةٌ أحلامُهم عن فكرة الثورة.

ثم يطالعنا فذٌّ آخر في منظومة التطبيل الرسمية بما جادت به قريحته الإعلامية منقطعة النظير، ويُبرز لنا المُدبِّر الرئيسي للاحتجاجات في فرنسا ومصدر اشتعالها، فيتهم الإخوان المسلمين بأنهم يقفون خلف هذه الاحتجاجات لزعزعة الاستقرار في أوروبا، وطبعا لصالح الأتراك المتهمين بدعم ورعاية الجماعة الإرهابية.

ولا أدري من أين جاء هذا البهلوان بذلك النبأ اليقين، مع أن القوم في باريس لم يصلوا إلى هذا الاكتشاف المذهل، لكن لا بأس، فالإخوان هم سبب كوارث الأمة حتى في الأزمان التاريخية الغابرة.

الإخوان، تلك الكلمة هي مفتاح النجاح لكل بهلوان إعلامي يسترضي السلطة، هي مفتاح لعبور كل عاهر داعر أخرق ليحظى برقصة خليعة أمام فخامة الرئيس، فقط أعْلِنْ عداءك للإخوان تكن من الآمنين، واربطْهم بكل أزمة تكن من المقربين، فلابد من خلق عدو يدّعي النظام أنه مشغول في مواجهته للتغطية على الفشل الذريع.

حقا إنها جماعة أسطورية خارقة الإمكانات، تلك التي تزلزل أوروبا وتحرك المظاهرات لإسقاط هيبة الحكومة وزعزعة النظام، لكننا لا ندري كيف لهذه القوة أن تخفق في أوطانها العربية والإسلامية في تحريك الجماهير.

أسمعهم يقولون لأن الأنظمة العربية قوية ومتماسكة، وتلك حركة بهلوانية أخرى يقصد بها تبرير مسالك البطش والقمع لدى الأنظمة العربية الديكتاتورية الحاكمة بالحديد والنار.

لم ينس مجانين الإعلام المصري الإشارة كالعادة إلى الأيدي التركية والقطرية التي تدخلت في اندلاع تلك المظاهرات في فرنسا، وهو أمر أصبح محفوظًا في كل مناسبة، تعدَّى مسألة الفُجْر في الخصومة بما يمكن أن نسميه (الهبل) في الخصومة، فالفُجْر في الخصومة عادةً يتسم بالدهاء والمكر وإتقان قلب الحقائق والتدليس، لكن ما يفعله الإعلام المصري في الربط بين تركيا وقطر وبين الاحتجاجات في فرنسا هو نوع من الهبل، ذلك لأنها احتجاجات مُبررة وطبيعية في أوروبا التي تتمتع شعوبها بقدر من الحرية والسيادة يتجاوز الأوضاع في العالم العربي بمئات السنين الضوئية، تلك الشعوب تتكلم بصفتها المالك وأما الحكومة برئيسها فليسوا سوى موظفين لديهم، ويؤمنون بأن الأزمة لا ينبغي أن يتحمل الشعب كلفَتَها، فإما أن تُوجِد الحكومة حلا أو تستقيل، وتلك لغة بعيدة عن الإدراك العربي الذي يرفع شعار (إحنا أحسن من غيرنا).

لقد بات خطاب الإعلاميين في مصر أمرًا مقززًا، يُخوف الناس - إذا ما أبدوا استياءهم- من مصير كمصير سوريا والعراق واليمن، لكن المصريين بالفعل لا يجدون فرقًا بين أوضاعهم وبين سوريا والعراق واليمن، فوطنهم يتم نهبه على أعينهم، والثروة تتركز في يد ثلة منتفعة من سياسات النظام، بعضهم يموت جوعا والبعض الآخر يموت كمدًا وقهرًا.

إننا لفي شوق من أن يأتي يوم يُحاكم فيه إعلاميو العرب المُدلِّسون المُطبلون المتاجرون بعواطف الشعوب، فلن ينسى التاريخ ولن تنسى الجماهير المطحونة أنه بمثل هؤلاء البهلوانات ضاعت الحقوق، وكُرِّس للاستبداد، وانتفش ريش الباطل وأهله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 801