بعيدًا عن الساسة والسياسة… بلغتُ الأربعين
كتعاقُبِ الفصول أعيش فصلًا يُسمونه الأربعين، لَطَالما فررتُ منه قبل الحلول، لكن خطَّ الزمان لا ينحني للوراء، ومع ذلك لم أرَ نفسي تلك الأنثى التي تتهددها كلمات نزار قباني:
وأعرف أنكِ في الأربعين
ستُقطع عنكِ مياه المطر
وأعرف أنكِ في آخر الشهر
سوف تكونين حقلًا بغير ثمر
وأنكِ في آخر الليل
سوف تكونين ليلًا بغير قمر
وأنك سوف تجوبين كل مقاهي الرصيف
بغير جواز سفر
لم ألتفت لتلك الحالة من الضياع المُحتمل، إذ أرعيتُ سمعي لآي الكتاب “حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”، فألفيْتُ المقامَ مقامَ الأشُدّ، وموطن النضج والجد، بعيدًا عن اعتبارها أزمة منتصف العمر، وبعيدًا عن الخضوع لهيستيريا التغيرات السيكولوجية والدخول في فترة مراهقة أخرى. لكنها مرحلة يرافقها الكثير من المعاني المُتدفقة والخواطر التي تتزاحم في العقل ولا تكف عن التردد بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ها قد بلغتُ الأربعين، ووضعت رحالي على أبواب مرحلة هي الأكثر غرابة وإثارة، حيث تشعر بأنك في حياة برزخية بين تفاصيل الماضي بقوته وعنفوانه ووعورةِ تضاريسه، بل عبثه وصبيانيته، ومستقبل يرقبك في وقار، ويطالبك بأن تكون أكثر نضجًا، أكثر عُمقا، أكثر اتّساعا وانفتاحا وانتماء لتلك القيم الأصيلة التي نشأت عليها، ويفتح أمامك كشف حساب لما مضى، فتقف أمامه كتلميذ بليد. بلغت الأربعين بغتة، فوجدتني ككاتبة مسلمة، أتساءل: ماذا قدمتُ لحياتي الأبدية التي أوقن بأنها المآل والمصير؟ فلم تعد نظرتي إلى الشعرات البيض المتناثرة في رأسي بالسطحية ذاتها، بل أراها قناديل تسكب في قلب العتمة غِبْطَتَها، تنشُرُ أشذاء مُعتّقة برائحة خرابيش الدفاتر والطباشير والحبر المُراق، وكتب مُهترئة الحوافّ وحقائب مدرسية ممزقّة، أو مُرقّعة ترك فيها الإسكافي العجوز توقيعه ذاته على الحذاء المُفضّل الذي أعيد إليه ست مرات في عامين، رائحة الأيام التي عمّدتنا بفرح أرعنٍ في انتظار لحظة ما قبل سقوط المطر بقليل، حيث نكهة التراب تغْتالُنا قبل أن تعبث ببقايا نشوتنا، ولم تعُد التجاعيد تستفزّ غرور المُختالة بما أنعم الله عليها، بل غدت رسولًا ينذر بدنو الأجل، ولم أُفلت من تقريع أحد سادة القرون المفضلة يقول: “إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يومٌ مضى بعضك”، فما الذي تبقى مني والظن بالسنين أنها لن تكون بقدر ما مضى؟ لكنّ جناح الرجاء الذي يمنحني الاتزان قد أتاني بالمخرج على لسان سيدٍ آخر: “تُحسن في ما بقي، يُغفر لك ما مضى وما بقي”.
بلغت الأربعين، وها أنا أتصفّح وجوه أحبابٍ تركتهم في قريتي البعيدة، غيّبهم الموت بعدي، بدون تلويحة أخيرة أو وداع يليق، بلغت الأربعين، وأنا أُعدّد أسماء من وُلدوا بعد رحيلي ومن كبُروا بدون أن أُدرك مراحل نُموّهم وإثمارهم، وجوهٌ وأسماء وأحداثٌ تدفقت كمياه شلّال يشتاق العودة إلى المصبّ ويطلُبُه، “رائحة خبز الطابون في البكور، لُقيمات صباحٍ اجتمعت عليها قلوب قبل أجساد، استدفاء بـ(فروة الصوف) يُلقيها الجد عليك ذات سقام، حرارة الشمس التي تشوي جبهاتنا وتشي بظلالنا ونحن نلعب عسكر وحرامية، جدّتي وهي تعطّرني بالصلاة على النبيّ وتدُسّ في كفّي الحلوى وخمسة قروش المساء، عودة أبي من الغربة في عطلة صيف مُحمّلا بالهدايا، ها نحن في (العُليّة) نستمع الى نشرة أخبار الثامنة وفنون التوبيخ من جدّ يهمزُ المُخطئ فينا وجدّة تُطلق وصاياها، بما يجب أن تكون عليه بنات الأصل والفصل، وبما يجب أن لا يكون”، كل ذلك حاضرا الآن، أشتم فيه رائحة العُمر المُدجج بالتجارب والتمرّد والشغب، وبعدما حملتني أحلام صباي إلى المدينة، واستبد بي الطموح في عالم الحروف، كنت حديثة عهدٍ بحياة العائلة، فلم أجد ذلك الوجْد للذكريات بسبب سطوة زخارف العالم الجديد، أمَا وقد انسلّت الأعوام، وودعتُ الشباب إلى الكهولة هدأت الثورة، وحانت مني التفاتة إلى قريتي وأهلي، فأدركتُ كم فقدتُّ من كنزٍ لا أعدل به سواه. بلغت الأربعين وأنا أنظر بابتسامة باهتة إلى قلمي المتهور، كم كان متسرعًا كحال مراهقٍ يستقبل نظرة الفتاة الأولى فيتعجل قصيدة غزلٍ لا وزن فيها ولا قافية، ولا دراية ببحور الشعر، وكم أوقعني في الخجل وأدخلني في دائرة الصراع بين نفسي ونفسي، لكنني اليوم أراني أستحي من جهالة تتلبّس قلمي، وقد دُعي أحدهم إلى لهو كان يساعد عليه، فقال: “دخلت في حد الأربعين، فما بقي فيّ على الجهل مساعد”، وأنا كذلك ككاتبة، لم يبقَ فيّ على الجهل مساعد.
أكاد أنفجر ضحكًا وأنا أتذكر فترة طفولتي الإعلامية، عندما حبست نفسي في دائرة المقارنة بين الإخوان والسلفيين والجهاديين، لأرى أيُّهم على الحق لأتخندق معه، لكن سرعان ما تسلل إليّ الرشد، فأدركت أن العالم أوسع من تلك الرايات الجزئية، وأنه ليس علي الاختيار بل ولا الانتماء، أيقنت أنه ليس هناك في البشر ملائكة خُلّص ولا شياطين خُلّص، وأن التقارب يكون بحسب ما لديهم من حق، والدفاع عن مظلومهم واجب، ونقدهم حال الخطأ عين الصواب، كما هو الحال مع غيرهم، وكفاني انتمائي لأمتي الاسلامية دون وسيط، أنا لها كما قال دريد بن الصمة:
وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ … غَوَيْتُ وَإنْ تَرْشُدْ غَزيَّةُ أرْشُدِ
ربما كانت “عاصفة الحزم” التي راهنت عليها حدثًا فارقًا في حياتي، بعدما تحولت فجأة إلى التخندق مع آل سعود، بعد طول شقاق بعد دعمهم للانقلاب العسكري الدموي في مصر، ذلك عندما لاحت أمامي الأحلام بعهد الملك الجديد، وغفلت عن السياق المُتشابك، ثم تحولت الأحلام إلى هباءٍ منثور، لكنني أدركت بعد أربعة عقود مضت أنه ينبغي لي أن لا أحب بالجُملة أو أكره دُفعة واحدة، وألا أرمي بمرساة السفينة في عمق الصحراء، لقد كانت القاعدة ماثلة دائمًا، لكنني لم ألتفت إليها، قاعدة نبوية “أَحْبِبْ حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأَبْغِضْ بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما”.الحياة ما هي إلا أوراق، بعضها فرغنا من قراءته والآخر في الانتظار، ربما كان الفصل الأجمل من حكايتي لم يأت بعد، ذات يومٍ كان جواهر لال نهرو، يختتم كتابةَ سيرتِه الذاتية قبل 12 عامًا من استقلال الهند، فذيّلها بقوله: “إنني أشعر بأن فصلًا من حياتي قد انتهى، وأن فصلًا على وشك البدء، ترى ماذا سيحوي هذا الفصل؟ لا أحد يتنبأ به، فإن أوراق الحياة المقبلة مختومة”، لكن الأوراق التي أتت لاحقًا في حياته كانت تحمل له نبأ تنصيبه رئيسا للوزراء، وما زال في أوج بروزه السياسي يشعر بأن فصولًا أخرى من كتابه لم تُفتح ولم تتقلب صفحاتها بعد.أمَا وقد بلغت الأربعين فإنّ الهمَّ يتّجِه لأن يكون المقبل أفضل، وألا تكون الأنفاس المتبقية لي على ظهر الأرض استنساخًا لمشاهد الماضي، ربما سبقني إلى التزين بهذه الحقيقة الملاكم الأمريكي المسلم الراحل محمد علي كلاي عندما قال: “إذا كنت أقول اليوم وأنا في الأربعين ما كنت أقوله وأنا ابن العشرين، فمعنى ذلك أني ضيعت عشرين سنة من عمري بدون جدوى”. ليس كل ما مضى من حياتي قاتمًا، فأكثر ما حمدته من مسلكي أن المواقف ليست هي المبادئ، والثبات على المبدأ لا يُحتّم الثبات على المواقف، وإلا فهو سكون الأموات، وهو ما أرجو أن أظل على عهد القيام به، سأظل دائمًا أُبقي على خط الرجعة، فأعتذرُ كلما أسأت التقدير وأتراجع كلما شعرتُ بأني استُغفلت، وبلا تردد او استنكاف. وبعد رحلة طويلة وجدت نفسي أُمثل حالة سوء فهم، ربما أبدو للكثيرين متناقضة، بسبب تغير مواقفي من القضايا المُحيطة الأكثر تناقضا، أو ربما لاندفاعي العاطفي في التناول أحيانًا، وربما تقولون بأنني كاتبة أحدثتْ جلبة، لكنني أعرف من نفسي الرغبة في أن أُحدث فرقا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 802