ثلاثٌ «عِجافٌ» وشعبٌ «يتيمٌ»

د. محمد عناد سليمان

ثلاثٌ «عِجافٌ» وشعبٌ «يتيمٌ»

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

يقترب الشَّعب السُّوري «اليتيم» من توديع عامه الثَّالث على بداية ثورته لإسقاط نظام «الأسد»، ثورة أراداها أصحابها أن تكون بداية عهدٍ جديد، تتَّخذُ الحريَّة والكرامة عنوانه وسبيله.

لكن الظَّاهر ومنذ انتقال الثَّورة من حالتها السِّلميَّة إلى حالتها المسلَّحة، أنَّها بدأت تنتهج طريقًا آخر، بعيدًا عمَّا رسمه لها أهلها، وبدأت تتقاذفها أيدي اللاعبين السِّياسيّين بين مدَّ وجزر، تارةً لصالح الثَّورة وجيشها الحرِّ، عبر ما يسمحون به من إمداد عسكريّ لا يكاد يسدُّ حاجةً من نهارٍ ليوم قتالي شرسٍ، وتارةً لصالح «النَّظام»، من خلال منحه الفرَص الزَّمنيَّة، والتي تمثَّلت بمؤتمرات، وحوارات، لم تتجاوز حدَّ اللقاء التَّشاوريّ، الذي لم يجد له تأثيرًا على جمع المستويات، الإقليميَّة والعربيَّة والدوليَّة، على نحو ما حدث في مؤتمر «جنيف2».

ولا يخفى على متابعٍ للأحداث التي اعتورت الثَّورة السوريَّة، التي استحقَّت بجدارة لقب «ثورة العصر»؛ بل أسمح لنفسي أن أسميها: «الحرب العربيَّة الأولى»، نتيجة حملات الإبادة الممنهجة بحقّ أهلنا في سوريا، حتى تجاوز عدد ضحاياها «مئتي ألف»، لم يتوانَ النِّظام خلالها عن استخدام ما يتوفَّر بين يديه من سلاح، بما فيها «السِّلاح الكيماويّ»، وسياسة القتل جوعًا، بمنع الإغاثات الإنسانيَّة من الدَّخول إلى المناطق المحاصرة،  وتهجير أكثير من «ثمانية ملايين»، بين دول الجوار، التي تعالت أصواتها مؤخرًا بضرورة اتِّخاذ موقف دوليّ واضح وحازم، تجاه هذه الأزمة الإنسانيَّة التي لم تعد تحتمل عواقبها وتبعاتها. لا يخفى أنَّها ثورة دون سنَدِ أو قيادة، وما «الائتلاف الوطنيَّ» إلا صورة مزركشة لتمثيل أصوات الدُّول التي عملت على تشكيله وترتيبه، وحالت في الوقت نفسه دون تحقيق أدنى انتصار، يحفظ ماء وجه أعضائه وحكومته المغيَّبة.

إضافةً إلى الموقف الدُّوليّ الذي كان مذبذبًا في ظاهره تجاه «الأزمة السُّوريَّة»؛ لأنَّه لم ينظر إليها كثورة شعبٍ يبحث عن أدنى حقوقه الإنسانيَّة في ظلِّ حكم إرهابي وإجراميّ فاق التّوقُّعات في عصرٍ بلغت فيه «حقوق الإنسان» ذورتها.

هذا الموقف الذي تنوَّع بين تصريحات خلّبيَّة للخارجيَّة الأمريكية بقولها: «إنَّ أيَّام الأسد باتت معدودة»، في حين انتهت ولاية المصرِّح بها، ومجيء وزير الخارجيَّة«جون كيري» ليتابع السِّياسة نفسها، وبين «الفيتو» «الرُّوسيّ» و«الصَّينيّ» في عرقلة أيّ حلٍّ، حيث لم تقدِّم السِّياسة الدُّوليَّة  للشَّعب السوريّ إلا مزيدًا من القتل والتَّدمير.

وأكاد أجزمُ أنَّ بعض الأطراف الدُّوليَّة الفاعلة والمؤثرة في «الأزمة السّوريّة»، من بينها بعض الدُّول العربيَّة استطاعت أن تجعل من السَّاحة السّوريَّة ميدانًا لتصفيَّة الحسابات السِّياسيَّة، كما هو الحال بين «الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة» و«روسيا»، أو لإتمام عمليَّة القضاء على «الإرهاب» التي بدأت قبل سنوات، ولا شكَّ أنَّ الموقف الأخير لـ«لمكلة العربيَّة السّعويّة» من هذه القضية يندرج ضمن هذه العمليَّة الدوليَّة.

وفي ظلِّ العجز الدُّوليّ المتعمَّد في كثيرٍ من جوانبه، أصبح واقعًا يقينًا لدى الشَّعب السُّوريّ المقهور أنَّه يعيش وحيدًا ويتيمًا ليلقى مصيرًا، أدنى درجات الحياة فيه خيمة تتقاذفها المياه والثّلوج، وبحثٍ عن قليلٍ من الكلأ يسدُّ رمق الطَّفل الرَّضيع.

وعلى الرَّغم من كلِّ ما حدث، وما سيحدث، فإنَّ الثَّورة السّوريَّة ما زالت مستمرَّة، وإن اختلفت أشكالها، وتعدَّدت روافدها، وتشوَّهت صورها من بعض جوانبها، بفعلِ فاعلٍ، إمَّا لحرفها عن مسارها الذي يهدف إلى إسقاط «النَّظام»، وإمَّا لتحويلها أداة طيِّعة لتحقيق مصالح سياسيّة واستراتيجيَّة في منطقة «الشَّرق الأوسط».

إضافة إلى محاولة إحداث واقعٍ جديدٍ في مطلع عامها الرَّابع، سيتمثَّل في الانتهاء من تسليم «السّلاح الكيماويّ» عبر الاتفاق الموقَّع عليه مسبقًا، عبر جدول زمنيِّ محدَّد، وانتهاء الولاية الرِّئاسيَّة لـ«بشار الأسد»، وإن كان ترشُّحه لخوض الانتخابات أصبح مؤكَّدًا، ودخول بعض الشَّخصيَّات العسكريَّة المنشقَّة بثقلها السِّياسيّ والعسكريّ إلى العمل المباشر، بعد أن حالت بعض الظُّروف دون انخراطها المباشر في ممارسة دورها ومكانها في «الجيش الحرّ»، وانتقال الاهتمام العسكريّ إلى «الجبهة الجنوبيَّة» بعد الفشل الكبير الذي أظهرته «جبهة الشَّمال»، سواء أكان من خلال قلَّة الدَّعم بالسّلاح الثَّقيل من جهة، أم من خلال القيادة وتجاذباتها واختلافاتها من جهة أخرى.

وأرى أنَّ ثمَّة تحولاً كبيرًا سيطرأ على «الأزمة السُّوريَّة» في مطلع عامها الرَّابع، تدفعه إلى ذلك جملةً من المتغيِّرات، يأتي في مقدمتها إضافة إلى ما سبق المعاناة الإنسانيَّة في دول الجوار، والتي ستكون البوابة الحقيقيَّة لإيجاد مخرج أوليّ لـ«لأزمة».