عصر التسميم

يحق لنا أن نسمي عصرنا هذا عصرَ التسميم، والدواعي إلى ذلك لا تخفى. وليس التسميم عارِضا أو خطأ غير مقصود، وإنما هو تسميم عن سبقِ إصرار وترصّد. اختار الإنسان المعاصر طواعية أن يسمم بيئته وطعامه وشرابه وجسده. محيط الإنسان كله موبوء، ومنذ أن يستيقظ باكرا إلى أن ينام وخلال نومه أيضا يكون عرضة لأنواع المهالك. هل يحتاج الأمر إلى بيان؟ أكثر ما نستنشقه سم، ملابس الناس وأغطيتهم وأثاث البيت وصباغته لا تخلو من كيميائيات، أواني المطبخ لا تخلو من ألمنيوم وتيفلون (Teflon)، الرصاص في البطاريات، والزئبق في الورق، والكادميوم في البوليفينيل كلوريد (PVC). ومنذ أن يخرج الإنسان إلى الوجود يتكفل البلاستيك برعايته، فرضّاعة الطفل من البلاستيك، ومصّاصته وألعابه، ثم محفظته ونعْله وقنينة الماء... حتى أكياس المصل (serum) وأكياس حفظ الدم من البلاستيك! وهلُمّ إلى الديوكسين (Dioxins) وحمض الفتاليك (Phthalic acid) والبيسفينول (Bisphenol A). أما هاتفُك الذكي فيتعهّد بنقل الموجات الكهرومغناطيسية إليك حيثما حللت. وحين يُتم الواي فاي (WIFI) البقيةَ يكون الإشعاع قد حفّك من الجهات كلها! سيارتك تنفث السموم ورئتك تستقبلها. أما غذاؤك فسموم بعضها فوق بعض. فهذه مواد حافظة، وتلك ملوِّنة، وأخرى سكريات كيمياوية... ولا يخلو منتوج مسوَّق من مضافات سامة. أما الخضر والفواكه فلا تَسلم من المبيدات والتغيير الوراثي.

ومن عجيب الأمور أن تكون مواد النظافة نفسها سامة، فهنا الكلور (ِChlorine)، وهناك الفليور (Fluorine)، والأرسونيك (Arsenic) في مبيد الحشرات... "الشامبو" والصابون ومعجون الأسنان منظفات تحتاج إلى تنظيف. تلك المنتوجات التي جُعلت للتطهير هي نفسها تفتقر إلى طهارة ونظافة. شأنُها في ذلك شأن مواد التجميل، إذ لا يستغني الجمال المصنَّع عن البارابين (Parabens) المؤدي إلى الخلل الهرموني. أما الأدوية ففي حاجة إلى دواء! أوَليس العلاج الكيميائي يقتل الخلايا السرطانية والسليمة على السواء؟ علاج في حاجة إلى علاج! وكذلك تقتل المحفِّظات الجراثيم، لكنها تقتل آكلَ المحفِّظات أيضا. فمن يُعلِّم حمضَ السوربيك (Sorbic acid) وحمض البنزويك (Benzoic acid) أن يستهدفا الجراثيم فقط؟! وأقراص الحديد تعالج فقر الدم لكنها قد تسبب سرطان القولون. لا يُبرئ الدواءُ داء إلا أحدث داء جديدا. لكن الداء الجديد في معجم خبراء الأدوية عرَض جانبي، فلِلأدوية أعراض جانبية لا آثار مرَضية!

هكذا ننتقي الأسماء لنُجمّل القبيح، ونزيّن الخبيث بالألوان، ونتلاعب بالأذواق. لا ضير أن نسمّي بعض الكيمياويات المخمِّرة "خميرة كيميائية" (Baking powder)، وحتى الانتفاخُ يغدو تخمّرا على الرغم من أن الغاز يعترف أنه مجرد بيكاربونات أضيفت إلى ماء! أما المُحلِّيات الكيميائية (artificial sweeteners) فتصير سكرا، ولا فرق بين السكر والأسبارتام (Aspartame)! يتنافس الطباخون في إعداد الأطباق، ويقضي فن الطبخ عندهم أن اللذيذ ليس هو النافع بالضرورة. لا تهمّ الفوائد الصحية وإنما المهم شكل الطبق ومذاقه. ولا تخلو أطباقهم من لحم ودسَم، أما الحبوب والقطاني فأطباق الفقراء. اللحوم عند معشر الطباخين هي الأصل لا النبات. سيحدثونك عن لذة اللحم المدخَّن لا عن النيتروزامين (Nitrosamine)، وسيغضّون الطرف عن الكولسترول وأمراض القلب والشرايين. وليس يهم أن تتجانس الأغذية أو لا تتجانس، ولا مشكل أن يضم الطعام بروتينات وسكريات معا، فأنْ يكون الطعام شهيا فذلك غاية المطلوب. ولا حديث عندهم عن النُّخَالة والدُّخْن وبذور الكتّان والحبة السوداء والثُّفاء (حبّ الرشاد) والحُلبة... ولا تُغريهم الأعشاب على ضروبها، فما عسى يكون السّعتر (Thyme) والريحان (Myrtle) والخولنجان  (Alpinia) وإكليل الجبل (أزير Rosmarinus) والكُركم (Curcuma) والسّذاب (الفيجل Ruta) والمردقوش (Origanum) والمريميّة (السالمية Salvia) والنعناع البري (فليو Mentha pulegium) والويزة (Aloysia)... وقلّما يَذكرون النباتات الغابوية والبُقول الخضراء، فما الخُبّاز (Malva)؟! وما الحُمّاض (Rumex) والهِليون (السّكوم Asparagus) والقُرّاص (الحرّيقة Stinging Nettle) والسِّلق (Chard)...؟!

يقضي فن الطبخ أن تُقدَّم الخضرُ المسلوقة مقطعة قبل الطبق الرئيس على الرغم من أنها ليست فاتحة للشهية. وتُقدَّم الفواكهُ آخرا على الرغم من أن المعدة تشتغل وفق قانون FIFO (first in, first out)، فلا مناص حينئذ من التخمّر والحموضة فالانتفاخ. ويزيِّن الزيتونُ المهيّأ بالصودا (Soda) والكبريتيك (Sulfuric acid) مائدةَ الطعام. ينشغل الطباخون بلون الكُركُم لا بِكَبحِه للأكسدة (antioxidation). اللون هنا مقدَّم على ما يمنع الجذور الحرة. وليس يهمّهم حمضُ أوميغا 3، ولا السيلنيوم، ولا المنغنيزيوم، ولا الكروم الضابط للسكر، ولا الفيتوستروجينات (phytoestrogen) المعدِّلة للنظام الهرموني، ولا الألياف الغذائية (Dietary fiber) مِكنسةُ الجهاز الهضمي، ولا السيروتونين (Serotonin) المهدئ للأعصاب، ولا حمض التانيك (Tannic acid) الواقي من السرطان، ولا التريبتوفان (Tryptophan)، ولا الفلافونْوِيدات (Flavonoid)، ولا حمض الفوليك، ولا الأملاح المعدنية... ما يهم هو الشكل واللون والمذاق.

سينصحك فنُّ الطبخ بالطبخ طبعا، ما دام أن الطبخ هو الأصل لا الطازج! ولا بأس من طبخ الخضر بالبخار (steam cooking) والسلق حتى وإن ذهب البخار والسلق بالأملاح المعدنية والفيتامينات والبروتينات الذائبة! وسيعلّمك الطبخَ السريع حتى وإن ضاعت الأنزيمات (Enzymes) وكُبِح البيبسين (Pepsin)! ولن ينصحك بأكل البصل طازجا حتى وإن أفادت حموضته وأنزيماته فكانت خيرَ هاضوم، ولن تشفع للبصل موادّه الطيارة (volatile matter). لكنه سينصحك في المقابل بالتفنّن في المقليات. السمك يُقلى في الزيت، وكذلك اللحم والبطاطس. سيُغريك الطباخون بالفُشار (pop corn) ولا يحذّرونك الأَكريلاميد (Acrylamide)، ولا السولانين (Solanine) في فصل الشتاء! ولا بأس عندهم أن يضاف السكر إلى الحليب ومشتقاته! ويضاف الحليب إلى القهوة! وتضاف الفاكهة إلى الحليب ليُصنع منها عصير ما، مادام أن فن الطبخ يقضي أن يضاف شيء إلى شيء ما!

إنه عالَم كيميائي فسيح، فلا عجب أن يغدو ساكنُه مثقلا بالمعادن الثقيلة (Heavy metals). ففيه الأرسونيك والرصاص والزئبق والألمنيوم والكادميوم... هي بيئة سامة متكاملة، ومستوطِنها كائنٌ حي يشكو القولون وحصى المرارة والكلى والأمراض المناعية والسرطانات المختلفة وقرحة المعدة والرّبو والغدة الدرقية والتوحّد والصداع النصفي والكُلّي وهشاشة العظام والكولسترول والسكري والسمنة وآلام الظهر والروماتيزم والخلل الهرموني وأمراض الحساسية والباركينسون والزهايمر والسكليروزس وتساقط الشعر والأنيميا وداء كرون ومرض بهجت وتشوهات الأجنة، وما علمنا وما لم نعلم... 

دحرت الكيمياءُ الطبيعة، لكن سحرَها انقلب على الساحر. فتلك ثمرة النظام الغذائي الأمثل! وتلكم منافع الصناعة الغذائية! هو ذا عصر التسميم كما هندسه أسياد العالم. وما يزال شعارُ أرباب المال والأعمال: الأربحُ لا الأصلح، والمال فوق كل اعتبار!

وسوم: العدد 805