خبر عاجل
رسالة المنبر ٢٨- ١٢- ٢٠١٨م
المحاور
لا تكاد تخلو لحظة من لحظات أيامنا الا ونرى فيها ونسمع بدل الخبر أخباراً؛ تحمل صفة العجلة على اختلاف أنواع تلك الأخبار؛ فمنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومنها الخاص والعام ومنها المهم والأقل أهمية بل والتافه الذي لا قيمة له.
التنافس المحموم بين تجار الأخبار عبر قنواتهم الإذاعية والتلفزيونية والتفاعلية أدى إلى صراع لتحصيل السبق في الوصول إلى الأخبار ونشرها .. بل وإلى تلفيق الأخبار وتزويرها واختراعها وتأليفها.
النتيجة التي وصلنا إليها من شدة متابعتنا للأخبار العاجلة؛ أننا صرنا في حالة شتات واستلاب وتيه وضياع نفسي وفكري غير مسبوق.
ملفات كثيرة تفتحها الأخبار العاجلة بين أيدينا ولا نملك الانتفاع وأخذ العبرة والدروس من أي خبر منها .. بل ولا نملك القدرة على متابعة أي منها للتحقق والوصول إلى نتيجة تدفعنا للعمل المناسب والمطلوب تجاهها.
فقدت الأخبار عذريتها وشفافيتها ومصداقيتها حين عبث بها الساسة (فسيسوها) ، وحين ركب موجتها التجار (فزيفوها).
يبدو لنا التسيس للأخبار واضحاً بتضخيم ما شأنه التصغير والتمرير .. وتصغير وتمرير ما شأنه التعظيم .. كل ذلك لموافقة مواقف الجهات الداعمة .. والتي جعلت لها أبواقاً تحكي باسمها.
جعلت شريعتنا للأخبار بأنواعها المختلفة قيمة عليا؛ لما يبنى على تلك الأخبار من مواقف وأعمال، وما القرآن الكريم إلا خبر السماء العاجل لأهل الأرض؛ يحكي لهم ما كان وما هو كائن وما سوف يكون، بلا شك (ذلك الكتاب لا ريب فيه).
كان الحبيب محمداً صلى الله عليه وسلم يعتمد على الأخبار الصادقة في حراكه الدعوي طيلة بعثته، فقد كان ينشر العيون في كل مكان، لا سيما بعد غزوة الأحزاب التي أعلن حينها: اليوم نغزوهم (بمجرد وصول (خبر) يهدد أمن المدينة) ولا يغزونا.
- كان جبريل عليه السلام يأتي بأخبار عاجلة من عند الله أحياناً تعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحرس مسيرته وتساعده على اتخاذ القرار المناسب، ومن ذلك:
١. نزول جبريل عليه السلام لإخباره أن حاطب رضي الله عنه أرسل بكتاب لأهل مكة يخبرهم بحراكه نحو المدينة.
٢. نزول جبريل عليه السلام لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن بني النضير اجتمعوا وقرروا إلقاء صخرة عليه وهو في أحد بيوتهم.
٣. نزول جبريل عليه السلام لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن المعركة مع بني قريظة قد بدأت عند مغادرة الأحزاب.
الأفراد والأمم التي تحترم نفسها لا تعتمد على مجرد خبر يأتي من هنا أو هناك لتقدير موقفها وحراكها، بل تعتمد على (معلومة أكيدة) من مصادر موثوقة، لأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث أصحابه في مهمات أمنية لجلب معلومات يقينية، ومن هنا قال يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم) ثم كلف أمين سره حذيفة رضي الله عنه بتلك المهمة الصعبة.
حذر القرآن الكريم من الاعتماد على أخبار لا تحمل صفة اليقين حين قال سبحانه وتعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا).
في عالم (الفوتوشوب) وسحر السوشال ميديا لم تعد حتى الصورة ولا الصوت تحكي الحقيقة، ومن هنا صار من الواجب أن يكون لنا مصادر موثوقة لنتأكد من ثبوت المعلومة وحجمها الحقيقي، فقد يثبت أصلها ويبالغ في حجمها.
حالة من البلادة عمت أرجاءنا بسبب غياب الحكمة في حمل الخبر ونشره .. ومعلوم أنه ليس كل ما يعرف يقال، وبالتالي فإن خطورة الخبر العاجل حتى لو كان صحيحاً تحملنا مسؤولية نشره لما قد يتسبب ذلك من إشاعة الفاحشة في المجتمع، والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (النور: 19).
قد يخفي المزورون بعض الحقائق والأخبار ولكن عبثاً يحاولون، فالأيام تفضحهم ولو بعد حين، ومن هنا قال طرفة بن العبد:
ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً
ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ
ويأتيكَ بالأنباءِ من لم تَبعْ له
بَتاتاً ولم تَضْربْ له وقتَ مَوْعدِ
كانت الإشاعة ولم تزل فناً من فنون الحرب النفسية أو باباً من أبواب الفتنة، وأصل نشوئها إما القصد والتعمد من بعض الجهات والفئات، وإما بسبب سوء وضعف تداول الأخبار بعد انتشارها، ومما تذكره السيرة من الإشاعات التي تسببت في العنت للمسلمين:
١. إشاعة خبر إسلام أهل مكة، مما أدى إلى رجوع مهاجري الحبشة، وتسبب ذلك في حبسهم وتعذيبهم لمدة عامين حتى عاودوا الهجرة سنة ٧ للبعثة مرة أخرى.
٢. إشاعة خبر مقتل عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية، وقد تكلف النبي صلى الله عليه وسلم عناء حشد الصحابة وعقد بيعة الرضوان، ولولا عودة عثمان رضي الله عنه إليهم لأريقت دماء وأزهقت أرواح.
ليس هنالك من الأمم ما تملك من أسلوب ومنها رصين في توثيق الأخبار مثل أمتنا .. ولك أن تطالع جهود علماء السنة والحديث لترى كيف أن الخبر الواحد من أخبار حديث وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم؛ قطع المسافات، وإشهاد العدول الثقات، وتتبع تواريخ الميلاد والوفيات .. ثم يأتيك جاهل لا يعرف نسبه ليشكك في أخبار البخاري وروايات مسلم عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن قيامنا بأفعال محددة نتيجة سماعنا لأخبار معينة لا يمنع من نسخها وتركها بل والاعتذار والتوبة عنها إن تبين لنا أنها غير صحيحة .. لأن الاستمرار في الخطأ بعد تبين الصواب خطأ مضاف جديد .. وإصرار لا يرتكبه الا المتكبر العنيد .. وقد تعامل الصحابة الكرام مع خبر السماء بكل شفافية فتركوا كذباً كانوا يتداولوه عن آبائهم في الجاهلية (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) ، ولزموا سبيل الهدى، فصاروا السادة والقادة.
كثيرون هم الذين يتعاملون بسلبية مع الأخبار العاجلة؛ فينتظرون مجرد انتظار الأخبار السارة المفرحة على أحرّ من الجمر .. ينتظرون تحرير الأقصى، وتخليص الأسرى، وعودة راية الإسلام تخفق في أنحاء الدنيا، وتأديب المحتلين، وسحق الطغاة الظالمين .. ولكن دون أن يكون لهم دور في صناعة تلك الأخبار العاجلة الجميلة .. فهل تغني تلك الأمنيات عن أصحابها شيئاً؟!
إذا لم نحسن صناعة أحداث جميلة مؤثرة يسمع بها القاصي والداني ويفرح لها الأحباب ويحزن لها المبغضون الفاسدون، فلا أقل من أن نغيب عن دائرة الحدث، فلا نتسبب في جلب الحزن لأحد بأخبار مزعجة نكون نحن مادتها أو نصنعها أو ننشرها هنا وهناك .. ففي الأمة ما يكفيها من نكبات.
في أحاديث الفتن وعلامات الساعة (الصحيحة) ما يكشف عن أخبار وأحوال قائمة وقادمة تخفف معرفتنا لها من حدة حصولها، وتجعلنا نفكر كيف نستفيد منها وننجو من آثارها، ومن تلك الأخبار الصادقة عن المصدوق صلى الله عليه وسلم:
١. حديث: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةً، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ! وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ
وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ! وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي بِهِ!
وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ
وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ!
وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ [يعني] آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}*
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فَلَا يَطْعَمُهُ
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ، فَلَا يَسْقِي فِيهِ
وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ، فَلَا يَطْعَمُهَا) متفق عليه.
٢. حديث: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ، حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) رواه البخاري.
٣. حديث: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا اليَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وَرَاءَهُ اليَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ) رواه البخاري.
٤. حديث: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»!
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟
فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟!) رواه البخاري.
وختاماً:
أحسنوا التعامل مع الأخبار العاجلة؛ بالتأكد منها وتمحيصها، والتركيز على أهمها وترك ما لا قيمة له منها، واحرصوا على نشر النافع والمناسب منها، وفكروا كيف تكونون ذات يوم أخباراً طيبة في حياتكم وبعد مماتكم؛ تجلبون الفرحة للطيبين، والحزن والكآبة للمجرمين.
وسوم: العدد 805