دمشق .. يا دمشق ..!
تتدحرج على وجناتك حبات التاريخ ، وتضج في أرجائك صلوات معاوية ، ويأتيك الصدى من بخارى وسمرقند ، لا تنفك تتجاوب تردداته في أذنيّ ابن عبد العزيز .
يا دمشق .. على مدى الدهر تُسرجين خيل الفاتحين ، وتُعطرين الدنى بهمسات المجد ، وتمدين خضر طيور الجنة بأرواحٍ متلاحقةٍ ، ضمتها الشهادة ضمة ، ثم صاحت على مدى العصور : " وعجلت إليك رب لترضى " .
من فوق منائرك البهية اللامتناهية صدحت ألحان العزة ، فتجاوبت أرجاء الدنى .. أن لبيكِ يا راعية أحلام الفرسان، مرتقية فوق جرح الأقنان .
دمشق .. يا دمشق .. هَمَستْ باسمك نكهة الفتح ، فاستنارت ذرات الدماء في الرؤوس، أشعلتها وقدة الشمس، فاهتدت بجمر : الله أكبر .. ورَوْح الشهادة لا ينفك عنبر، معلناً عبق الدم الأطهر.
لجمتِ بطلعتكِ النورانية الأكف الملطخة بأحزان القهر ، وأضأت بنيّر الفكر ظلم الجروح وحوالك أزمنة الضياع .
برزتِ مابين الغوطتين حورية تتهادى في حلل الجنة ، لكنك كنتِ في اللحظة ذاتها فجراً أيقظ أجفان النائمين على حرف الردى ، فتمثل النصر في الحال ، وانثلت الحشود ، تلبي سرّ ندائك المضمخ بعطر الآية : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... )) وتهادى ابن الخطاب على أطرافك ، فنسجتِ من عدله ومن شكيمته قُبلة ُ، حلّ نداها أينما حلت خطى الجحافل، وحيث تعاظمت آمال الصادحين للنصر..
ليس سراباً هذا الذي ترددين ، وليس تدبيج كلام هذا الذي ندندن ، أتذكرين الربيع ..؟ حيث نيسان الانقلاب، إذ مرّت بكِ الصروف ، فحاولتْ إثقال قيودك ، وتغييب القُبْلةُ المنسوجة من عدل وشكيمة عمر ، وتبديد الصورة الفذة للحورية والفجر ، وإرهاق ندائك المضمخ بعطر الآية ..
لكنكِ كنتِ كما كنتِ دائماً أمام الغزاة ، فرسَ فتحٍ، تدوس الطامعين بحُرِّ العهد والصولة الأموية ، والصهوة الصلاحية . كل أبنائك الميامين أقسموا : لا تكونين إلا عمريةً ، أو لتنفصل الهامات الشامخة ، تناطح جدائل الشمس ، ووفَوْا بالقسم ، وأدَّوْا العهد .
وازدهيتِ بالمجد من جديد في السابع عشر من نيسان ، إذ غنّت قمرية فوق حَوْر الهامة ، كانت تبني عش الربيع، فردد الجمع خلفها : يا دمشق ، كل أحلام الغزاة والريح والرماد ، والمُدى والعيون المريبة ولّت مع فلول فرنسا ، وهي تجر أذيال الهزيمة .
فهل صفا لك الزمان ، وتدلى غصن الأمان ؟ أم أن المليحة لا يصفو لها الكأس ، حتى تخالطه ملوحة البحر ..؟
ألا تجيبين ..؟!
يا دمشق ، ما بالك ساهمة ، تسهرين على حافة التاريخ ..؟!
تمتلئ عيناك بوهج الكلمات التي تأكلها الريح ، وتبتلع صباحاتك أقبية فُتحت والتهمت أبناءك ، ، وتقفين
ساهمة تكمم شفاهك أقفال مصنوعة من أردأ أنواع المعدن . كيف يقرّ لك قرار ومغتصبو الكرسي فيك يلتهمون الجلاء ، ويفتحون في مناسباته دور العزاء ..؟!
أبداً ، أنتِ اليوم لست أنتِ .. !! إنهم يفتحون كل يوم جرحاً في جدار مجدك ، ويقودون الجنازات سراً في طرقك ليصلوا بك ومعك إلى أحضان بني قريظة ، مرتدين ثياباً من اللاوعي ، أجادوا حبكة نسيجها ، لتبدو المسرحية قريبة من الحلم ..( ألم تريْ وفدهم إبراهيم سليمان في تل أبيب .. ) !
القادم أعظم ..! القادم أرهب ..!
أين المِقوَد ؟ تاه الملاح .. ! منذ الجلاء ، ( فجر الربيع ) ، حاولوا تزييف الخريطة ، وتضليل البوصلة ، ولكنهم ظلوا يدورون في متاهات المحاولة ، ولم يهتدوا إلى مقودك ، وظللتِ أصيلة فاتنة ، وكما دست الغزاة بحُرّ العهد، سوف تدوسين المغامرين مغتصبي حكمك بحدّ الصبر ، وفجر الشهادة ، وتوق الأبناء إلى أحضانك الدافئة ، وسوف تركلين أوهام المارقين ، وتجلسين فوق الصهوة من جديد ، وتذهب عنك لوثة السقوط في أقبية القهر ، أو الوقوف في صف الدور على أبواب الغاصبين الغرباء ..! فها هم أبناؤك يغرسون عيون الجلاء الثاني في حواريك ، لِتَنْبُتَ على جباهك أشجار الياسمين ، فيغزو عطرها قوافل الباقين على العهد ، المقاومين من كل الدروب ، ينشدون حرّ اللقاء ، فعدوك وعدوهم يكره الفرحة ترتسم على ثغور الأطفال ، فليكن الجلاء الثاني قدوم صبح وضيء الجباه ، مُضمّخٍ بالحب والحنين وحق الإنسان ..
وسوم: العدد 810