بيني وبين الشباب حوار قديم
ليلة الجمعة 16/3/2001، زارني نفر من شباب جامعة السلطان قابوس: طبيب، ومهندس، وتربوي، ومسرحي، وجغرافي.
خضنا في علاقة الفكر باللغة، فلم يستطيعوا أن ينكروا اختلاطه بها، وإن ركز الطبيب على أن المتعلق باللغة التفكير لا الفكر، وركز المهندس على أدوية اللغة (أنها أداة).
ثم خضنا في القول بانخلاع اللغة العربية الحديثة من ماضيها لتحيا نفسها ونحيا بها -وقد اعترض الطبيب بأنها ليست لغة ميتة، هي حية، ونحن نريدها وسطًا- وأن هذا طبيعتها، وعرقلته إماتة لها.
وبينت كيف نستطيع أن نحركها حية دون أن نأتي على النحو والصرف اللذين يمسكانها أن تنخلع فتصير لغة أخرى، فدعا المهندس إلى أن نكوِّن لغة أخرى؛ ففيه خيرنا وحياتنا، وألا ضرر من انقسام هذه الأمة الضعيفة إلى شعوب قوية، فاعترضته بأنها ستكون ضعيفة.
ولما أشرت إلى مخافة انبتات الشعب عندئذ من أصول ثقافته قال الطبيب بإمكان ترجمتها له إلى لغته كما هو عند طوائف المسلمين غير العرب، وطرح للنظر هذا السؤال: كيف لو تمكنت الإنجليزية من العالم؟
قلت: سيفكر العالم عندئذ تفكيرا إنجليزيا، فصدق الكلام المهندس، ثم استحسنه وقال: يكفي أن هذا سيؤدي إلى الإخاء والمساواة والعدل، فسيكون الجميع إنجليزا لا فرق فيهم بين واحد وآخر. فلما قلنا له بعنصرية الأميريكيين قال: هذه بين ذوي الألوان المختلفة، وقد خفت. قلت له: نحن لديهم ملونون فماذا تنتظر؟
وقد عجب المهندس من تخطيء بعض النحاة لبعض الاستعمالات، فقلت له: بل هي مستعملة في اللغة من قديم، والدخيل مصطلح عليها فليك كلمة تليفيزيون وتليفون، دخيلتان، ولكن فكِّر في جدوى تعريب تليفيزون إلى تِلْفاز، كيف مكَّنتنا من كلمات تَلْفَزَة ومُتَلْفِز ومُتَلْفَز...، في حين أن الكلمة على حال دخيليَّتها فقيرة. وأنت تؤمن بمقتضى الحاجة.
وكنا قد خضنا في شروط انتشار كلمة أو تعبير فقال التربوي بالصدور عن ذي سلطة، فرده المهندس بالصدور عن الحاجة، فأضفت أن تلك الابتكارات تصدر عن فئة بعينها متفنِّنة، لك أن تجعل ما لديها سلطة فنية فتعمم مصطلحك هذا إلى حد بعيد.
سألني الطبيب: لم لا تدعو إلى تسكين أواخر الكلمات رعاية لما انتهينا إلى في نطقنا؟ قلت له: لأنني لا أؤيده. قال: ولم لا؟ قلت: لأنه يضيِّع علينا تسعة أعشار إمكانات اللغة، فكيف تفعل إذا كنت في عملك ودعوتك تستطيع إهمال الإعراب وأنا لا أهمله؟ فسكت، وقال التربوي: حجة قوية.
ودعا المهندس إلى أن نتعلم لغتنا الآن، فقلنا: وكيف؟ ألا نحتاج لها إلى تقعيد وكتابة؟ قال: بلى، قلت: فهذا يحتاج إلى عمل ووقت، ويؤدي إلى ثباتها لنقع في المأزق نفسه.
والمهندس يرى أننا متخلفون لأنننا نعيش في الماضي. وقد أشرت إلى أننا أقوياء بهذه الثقافة وهم يرون فرقا بين الفكر والثقافة فالأول العقيدة أو الكيان الداخلي والأخرى الكيان الخارجي المدرك من الآخر وهو مختلط لديهم بالحضارة، لأنه الثقافة لدى الطبيب هي المدرَك من الآخر الآني، والحضارة هي المدرَك من الآخر على تاريخ الثقافة كله.
وقد استشهدوا لاختلاف الفكر (العقيدة) والثقافة، بأن هناك ملحدا مسلما وملحدا نصرانيا وملحدا بوذيا، والملحد عند المسلمين هو غير الإسلامي فقلت: أما الملحد المسلم فهو ملحد فاشل ينبغي أن يجتهد في إلحاده لينخلع من بقايا ما كان، وأما أن الملحد المسلم هو غير الإسلامي فغير صحيح؛ إذ هو لدينا مصطلح على معتقد أمور).
ثم قلت لهم: إن قوتنا في ثقافتنا، وماديات الحضارة الغربية اتسعت بيننا وبينها الشقة حتى استحال علينا تحصيلها.
وسوم: العدد 812