مصيدة التقليد الأعمى للغرب
لم يتوقع الإيطاليون أن مواطنهم الرسام الشهير ياكوبو كاروتشي المُسمّى بنتورمو، سوف يقع في غرام نقوش الرسام الألماني ألبرخت دورر، ويتخلى عن الطراز الإيطالي مؤثرًا عليه الأساليب الجرمانية الثقيلة، فثار عليه الإيطاليون جراء هذا التقليد، وكان أشدهم عليه ابن موطنه، الرسام والمعماري جورجو فازاري، الذي سخط على صنيع بونتورمو، وقال في ما نقله عنه المؤرخ ديل ديورانت في قصة الحضارة: «ألم يعلم بونتورمو أن الفلمنكيين والألمان يأتون ليأخذوا عنا الطراز الإيطالي الذي بذل ما بذل من الجهد للتخلي عنه كأنه طراز غثّ لا قيمة له».
أخذتني الدهشة وأنا أرى نقمة الإيطاليين على التقليد معتبرين أنه يجُور على تميُّزهم الفني والمعماري، فاصطدمتُ بنظرة مقارنة مع واقعنا العربي والإسلامي، الذي أصبح فيه التقليد المُطلق للغرب نزعة تقدمية ودعامة نهضوية وضرورة حضارية وعلامة رقي المجتمعات وازدهارها.
«المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيِّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده»، عندما يكون مصدر هذه العبارة واضع الأسس الأولى لعلم الاجتماع ابن خلدون، فيلزم أن تضعها قيد التأمل، ذلك لأن ابن خلدون خبُر قوانين الاجتماع البشري، وله منهجه الذي يربط بين تحليل الأحداث والوقائع التاريخية وتحركاتها. تقليد المغلوب للغالب والضعيف للقوي ينبع من الهزيمة النفسية والإحساس بالدونية مقابل فوقية الآخر، فالمنتصر دائمًا مستغنٍ ولا يجد الحاجة إلى تقليد الغير إلا في أضيق الحدود، وبما لا يضر مقومات تميزه.
لقد كانت الهزيمة النفسية التي لحقت بالأمة فترات الاستعمار، مردّها إلى القوة العسكرية الهائلة التي كان يتمتع بها المحتلون مقابل الضعف والهشاشة والتشرذم لدى المسلمين، لكن الاستعمار وإن فارق الدول العربية، إلا أن تقدم الغرب في صناعاته وتقنياته واقتصادياته وعلومه، استأنفت معه الهزيمة النفسية توغلها في نفوس المسلمين، ومن قبل ذلك خرج من بلادنا أناسٌ إلى أوروبا وعادوا بوجه غير الوجه، ومبادئ غير المبادئ، إذ جاءوا ينادون بتقليد القوم في كل شيء حتى نصل إلى ما وصلوا إليه، ولو كان على حساب الهوية والقيم والثقافات المتجذرة.
أخذنا عنهم بلا تمييز ولا تدقيق ولا عرْض على ميزان الهوية، بل هو اندفاع بلوثة الانبهار، ذلك لأن التقليد الأعمى كما قال الأديب المنفلوطي شأن العاجز الضعيف الذي لا يدري بماذا فاقهُ القوي القادر، فهو يقلده في جميع حركاته وسكناته ظنًا منه أنها سر قوته وقدرته. هو بالضبط ما يحدث في المجتمعات الإسلامية العربية، توافقٌ تامٌ مع نبوءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم (لَتَتَّبِعُنَّ سننَ مَنْ قبلكُمْ شبْرًا بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ). قلّدنا غيرنا في تصوراتهم ومعتقداتهم، وأكاد أجزم أن ظهور جماعات عبدة الشيطان وموجات الإلحاد في الأمة لا يأتي في كثير من الأحيان بناء على قناعات دينية، بل تأثّرٌ بنمط جديد في الحياة أخذه شبابنا عن الغرب ليسد ذلك الفراغ الكبير في حياتهم، خاصة أن هذه التصورات المشوهة والسلوكيات المقيتة التي تتنافى مع التصور الإسلامي، تكون أكثر ما تكون في الطبقة الأرستقراطية، حيث مساحة التحرر غير المتزنة وغير المحسوبة، وحيث الملل والفراغ جراء الرفاهية الزائدة.
قلّدناهم في مناسباتهم الخاصة، من دون النظر في مدى توافقها مع المكونات الثقافية للمجتمعات الإسلامية العربية، المهم هو الاستيراد، فمثلا عيد الحب «فالنتاين»، يعد شرعنة لعلاقات غير سوية بين كثير من الشباب والفتيات، وفتحًا لأبواب الانحلال، ثم أنه في حد ذاته يختزل معاني الحب في هدية وفي يوم واحد في السنة، وهو ما يعد إهدارا لقيمة الحب، إضافة إلى ذلك، لا يراعي هذا الاحتفال تلك الشرائح من الشباب التي تصون نفسها عن أي علاقات خارج إطار الزواج، ولا الزوجات الأرامل أو المطلقات اللاتي سيُحرمن ويُحرمون من بهجة هذا الاحتفال حتمًا، ولا بملايين الرجال الكادحين الذين يكدون لسد الحاجات الضرورية لعوائلهم، وتمثل لهم هذه الهدية المنتظرة من الزوجة عبئًا ماديًا. أنظر إلى قصّات الشعر، البنطال الممزق، أقراط بالشفاه وأخرى في الحاجب، أنظر إلى أعلام الدول الغربية على زجاج السيارات، إلى الملابس التي دُوّنت عليها عبارات بالإنكليزية تتضمن أقبح الكلمات وأسخفها، غالبا لم يفهم معناها من يرتديها، صور لا حصر لها من التقليد الأعمى.
الإسلام له مبادئه الوسطية في تقليد الأمم والحضارات الأخرى، فهو من ناحية يسعى للحفاظ على الشخصية الإسلامية من ذوبان هويتها، ذلك لأن ما جاء به الإسلام مُشبعٌ في الجانب النظري والأخلاقي والسلوكي، لا يحتاج المسلمون في ظلاله إلى تقليد الآخرين في تصوراتهم لأن الإسلام جاء بمنظومة وافية من التصورات عن علاقة الإنسان بربه وبالكون والناس، ولا يحتاجون إلى التقليد في منظومة القيم والأخلاقيات، لأن أخلاقيات الإسلام ليست نسبية، وإنما هي رغم مرونتها ربانية المصدر تتسم بالثبات، فمثلا قيمة العدل في الغرب نسبية تدور في فلك المصلحة، ولا أدل على ذلك من أكذوبة العدل الأمريكي التي دمرت العراق وأفغانستان، ثم لم يأخذ العدل بيدها لتسقط بشار الأسد الذي يقتل شعبه، بينما في ظل تعاليم الإسلام أمرنا بالعدل حتى مع غير المسلمين والأدلة في ذلك أكثر من أن تُحصى.
ومن ناحية أخرى لا يمنع الإسلام الأخذ عن الآخرين في الأمور الحياتية وتقدمهم في الصناعات والفنون والعلوم الدنيوية النافعة ونحوه، طالما كانت لا تضر بالهوية الثقافية للأمة، وليس أدل على ذلك من واقعة الخندق في العهد النبوي. فالصحابي سلمان الفارسي الذي أتى من أرض الفرس إلى النبي في المدينة مُسلمًا بين يديه، وفي يوم الخندق، أشار سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم بفكرة عسكرية فارسية فقال «يا رسول الله، إنّا كنا بأرض فارس إذا حُوصرنا خنْدَقْنَا علينا» فرحب بها النبي، رغم أنها فكرة مستوردة من حضارة أخرى وأمة أخرى لها ثقافتها وديانتها المختلفة، فليس الإسلام دين انعزالي، لكنه يوازن بين الاستفادة من الآخرين والحفاظ على الهوية.
لابد إن قلدنا غيرنا أن يكون تقليدًا واعيًا منضبطًا، سماه الأديب مصطفى صادق الرافعي باقتباس التحقيق لا التقليد، بعد أن نعطي كل شيء حقه من التمحيص ونقلّبه على حالتيه الشرقية والغربية، فإن صناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد، الفرق بعيد بين الأخذ في المخترعات والعلوم، والأخذ من أهواء النفس وفنون الخيال.
مشكلة التقليد الأعمى ليست مشكلة هينة، بل هي عائق كبير لأي مشروع نهضوي في الأمة، المفكر الجزائري مالك بن نبي يعد من أبرز الذين تنالوا قوانين النهضة وشروطها ومقوماتها، كان يُحذر من نوعين من الأفكار:
الأفكار الميتة والتي جاءت لنا من موروث ثقافي لم يتم تصفيته وتنقيته، والأفكار المميتة التي جاءتنا عن طريق التقليد الأعمى، فيرى أن تصفية الأفكار المَيّتة (الموروثة)، وتنقية الأفكار المُمِيتة (المستوردة) يعتبران الأساس الأول لأي نهضة حقة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 813