«الساعات الأخيرة».. موعود بالعذاب يا قلبي!
ليس هناك جديد في الفيلم الوثائقي «الساعات الأخيرة»، والذي يروي ما جرى مع الرئيس محمد مرسي، للدقة في أيامه الأخيرة في الحكم، وقبل صدور قرار بعزله!
ومع هذا فقد «قلب» علينا الفيلم «المواجع»، فنمت ليلتها مباشرة، فلم أقم بوردي الليلي في القراءة، وقد نمت طويلاً لحالة الغفلة، التي كان عليها من وثق فيهم الناس، ومنحوهم ثقتهم بعد ثورة عظيمة، لم تسقط فقط مبارك، ولكنها أسقطت 60 عاماً من حكم العسكر، فإذا بالإدارة الجديدة شديدة البؤس، وكان المصدر الذي قام عليه الفيلم وهو «خالد القزاز»، قال إن الرئيس مرسي أخبرهم في اليوم التالي لبيان الانقلاب، أنه نام لأول مرة بشكل متواصل، وهو ما اعتبرته حرم الرئيس إهانة لأنه يدخل في باب عدم الاحساس بالمسؤولية، فقالت في بيان لها إن الرئيس ظل ليلته في حجرته قائماً يُصلي، وأن أسرته هي التي كانت الدائرة المحيطة به، وليس أحد من خارجها، وقد ظلت وأولاده أمام حجرته، حتى خرج عليهم وأخبرها أنه اختار طريق سيدنا عثمان بن عفان، فلن يتنازل عن السلطة، ولن يفرط في الأمانة التي وضعها الشعب بين يديه.
أحيانا لا يكون النوم العميق، هروباً من المسؤولية، ولكن لعمق الشعور بها، وإن كنت ميالاً لرواية حرم الرئيس محمد مرسي، فلن أجاريها في بعض العبارات التي قالتها سلباً في حق «القزاز»، دون أن تفصح، على نحو دفعه لكتابة مقال نشره موقع «الجزيرة نت» له، ليوضح فيه بعض الأمور، فلم يقل شيئاً له قيمة، فالمقال على طوله، كاشف عن حالة الارتباك التي انتابته من ردة الفعل ضد الفيلم، وليس من غضب أسرة الرئيس فقط، ولعله برواية النوم هذه كان يريد أن يقدم خدمة للرئيس بشهادة في حقه، تؤكد أنه لم يكن سعيدا بتحمله الأمانة، فالمؤمن لا يطلب الولاية، وهي الدعاية التي سيطرت على العقل المسلم، ربما للتعامل مع النظم المستبدة، وكأن سيدنا يوسف عندما طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لم يلتزم بسلوك المسلم.
عندما استيقظت بعد نومي العميق، مرهق الوجدان، فهمت الأمر الدارج بالنوم «إتخمد»، فلم أكن نائماً نوماً طبيعياً، فقد كنت «مخموداً»، فالفيلم وإن لم يأت بجديد فقد تطرق للمسكوت عنه، ولعل منتجه استغل شغف الناس بما جرى في هذه الساعات الأخيرة، فلعب بفيلمه على هذا الوتر، وهناك تقارير صحافية نشرت عنها، وربما بالاسم نفسه كانت تحقق المرتبة الأعلى في القراءة، وجدلاً يستمر لأيام، وإن قلل من أهميتها عندما ذكر مصادر من شهود العيان، فهناك ندرة فيهم، ومن كانوا في الدائرة اللصيقة بالرئيس هم الآن في السجن، قبل أن نعرف أن إثنين منهم خارجه، هم «خالد القزاز»، المصدر الوحيد في فيلم «الجزيرة»، والثاني هو «عبد المجيد مشالي»، ويعيش متنقلاً بين البلاد الواسعة، والأول كانت هذه هي المرة الأولى التي يتكلم فيها، أما الثاني فكل جهاده كان في منشور يتيم كتبه، مَثل شهادة لصالح الوزير السابق الدكتور محمد محسوب، عندما نشرت اللجان الالكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي أن الرئيس مرسي لم يكن يثق فيه، وجاء منشور «مشالي» أنه طيلة فترة قربه من الرئيس لم يتحدث عن الدكتور محسوب إلا بكل خير، ثم لاذ بالصمت من جديد!
محنة الدكتور محسوب بدأت عندما استضافه أحمد منصور في قناة «الجزيرة»، ليروي أيضا الساعات الأخيرة، وبطريقته ظل منصور يحاصره، حتى أفلت منه اعتراف بأن كثيراً من الأسباب التي أدت للانقلاب كان يمكن تداركها، وهنا قيل «يا داهية دقي»، فقد انطلق الهجوم على الرجل من الذباب الالكتروني، المنتمي لمعسكر الشرعية، وقد أثبتت الأيام أنهم عناصر مجندة أمنياً، لكنها كانت تكسب ثقة الناس بالتمسك بشرعية الرئيس والمبالغة في ذلك. وكان على الجميع أن يتعلم من رأس الذئب الطائر، وأن يكون ما جرى مع الدكتور محسوب رسالة له ولغيره، والرجل على علم بتفاصيل المفاوضات التي قادتها آشتون، ولم يكن في هذه المرحلة من المناسب، أن يتم الاعلان من طرف الاخوان أن هناك مفاوضات تقبل بمبدأ التنازلات، فالرأي العام لم يكن يقبل بذلك، لذا كان لا بد من اسكات «محسوب» بقوة البطش الإلكتروني! بغطاء أخلاقي يتم فرض الصمت؛ فكيف يمكن الحديث في قضية، أطرافها صامدون في السجون، ليتبين بعد هذا أنهم ليسوا جميعا في السجون، فهناك عبد المجيد مشالي، وهناك «خالد القزاز»، ثم إن الغطاء الأخلاقي امتد ليشمل مرحلة ما بعد الانقلاب والفض، وكثير من شهودها في الخارج، لكن هناك اتفاقا ضمنيا على أن أي كلام يمكن أن يدين الجماعة، لذا فالصمت أوجب، وأحيانا يتم اغراقك بمعلومات غير حقيقية تناسب اتجاه الجلسة وتوجه الجالسين!
حملة خيرت الشاطر
كنت أخطط لاعداد كتاب، ليس عن «الساعات الأخيرة»، ولكن عن سنة حكم الرئيس مرسي، مما جعلني أقترب من هذا الملف، لاكتشف أنه إن كانت الدائرة الضيقة للرئيس في الساعات الأخيرة لم يخرج منها سوى اثنين من السجن، فإن الدائرة الأبعد نسبياً، خرجت جميعها من مبنى الحرس الجمهوري، في نهاية يوم 2 يوليو/تموز، ومنهم من جلست معهم أكثر من مرة دون معرفة بخلفيتهم الوظيفية فلم يتطوعوا أبداً بالحديث، وإن ذكرت معلومات غير حقيقة في الجلسة. بل لم يعترفوا يوما أنهم كانوا من هذه الدائرة، وعرفت بالأمر بعيداً عنهم وبالصدفة!
بعضهم يتعامل معها على أنها مرحلة وانتهت بالنسبة له ولا يحمل بداخله أي حماس للتجربة، وفي الحقيقة هم لم يكونوا من رجال الدكتور محمد مرسي، لأنهم الفريق المسؤول عن حملة المرشح الرئاسي الرجل القوي في الجماعة «خيرت الشاطر»، فلما استبعد لأسباب قانونية، ورسى العطاء على مرسي، فإن هذه المجموعة كلها انتقلت له، ومشكلة مرسي أنه لم يكن له رجال داخل الاخوان، رغم ترؤسه لحزب «الحرية والعدالة»، وربما لهذا جرى اختياره، والجماعة دفعت برجال التنظيم في هذه المرحلة وهمشت رجال السياسة والثورة بها ومن عصام العريان، إلى البلتاجي!
وتكمن المشكلة في أن الرئيس مرسي، لم يختر أحداً ممن حوله، فرغم قراره الشجاع بعزل قائد الحرس الجمهوري، الذي فرضه عليه طنطاوي قبل اعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، فإنه أوكل للسيسي اختيار قائد الحرس، والذي تمت مكافأته الآن على تسليمه الرئيس لخاطفيه بمنصب وزير الدفاع، ولن يستمر فيه طويلاً، وهذه سنة الانقلابات العسكرية!
فلم يختر الرئيس حرسه (هو حرس مبارك في الأصل) كما لم يختر الفريق الرئاسي المكون من تسعة أفراد، والموظفين الآخرين، وهذا يوضح مدلول الكلمات السلبية التي قالتها حرم الرئيس في حق «القزاز»، والبعض علق عليها ولماذا اختاره زوجك إن كان هذا رأيك فيه؟! هناك دافع آخر للصمت، مبرره أن كل الكلام يدين، لا سيما مع حالة التربص، لأن هناك من حدد موقفه، وأي كلام يقال سيوظفه في اتجاه هذا الموقف، وبعض الشباب المنتمي للجماعة ممن يطلق عليهم «إكس اخوان»، بنوا موقفهم على أن الجماعة رفضت التفاوض، فيكف رفضته وهي لا تسطيع الدفع للنهاية في اتجاه المقاومة، لكنهم عندما علموا أن هناك مفاوضات جرت، أفشلها السيسي بتحريض من دوائر اقليمية صمتوا، لأن المفاجأة أربكتهم، ولولا أنهم تورطوا كثيرا في هذا الاتجاه لقالوا وكيف تتفاوضون دون علم الجماهير؟!
السيسي والمؤامرة
ففتح الملف للنقاش موجع، لذا فإن الصمت من ذهب، حتى وإن كان سيجعل من تكراره أمرا وارداً، فما حدث في محنة الجماعة الأولى في سنة 1955، تكرر بالنص الآن! الكلام لن يخرج عن مسارين ناتجين من الاجابة على سؤال: هل كان مرسي وجماعته يعلمون مبكراً أن السيسي ضالع في مخطط الانقلاب عليهم؟ فإن كانت الاجابة بنعم، فماذا فعلوا لمجابهة الانقلاب قبل وقوعه ولماذا لم يتم عزله؟ وإن كان الجواب: أنه لم يعلم، فقد وضع نفسه في وضع لا يرتضيه أحد له. لذا ففي الصمت راحة، لكن «فيلم الجزيرة»، فتح الباب للكلام، ليؤكد «القزاز» كيف أن السيسي كان مخادعاً، فقد وضع يده على كتفه، وهو يشير للرئيس مرسي ويقول لا بد من الحفاظ على هذا الرجل، حفاظا على المشروع الاسلامي!
كلام كثير كهذا قيل عن اظهار السيسي تدينه، وافتعاله ما يثبت أنه متدين لا سيما إذا حضر شيوخا أو خاطب شيوخاً، فخضعوا له بالقول ليطمع الذي في قلبه مرض!
هذه مبالغات ولا شك، لكني لا أستطيع نفي أن يكون السيسي بالفعل متديناً، لكن الخديعة لا تكون إلا من نصيب العقل الاسلامي البعيد عن السياسة، وأشرس وزير داخلية فتح باب الدماء باغتياله المتحدث الاعلامي باسم الجماعة الاسلامية في بداية التسعينات كان درويشاً، ورجل موالد، بل كان يصلي خلف الشيخ صلاح أبو اسماعيل في حياته، ثم انتقل مصليا الجمعة خلف الدكتور عمر عبد الكافي، وهو اللواء محمد الحليم موسى، ولم يرتكب جرائمه وزير طعان ولعان، ويسخر من المتدينين، وهو زكي بدر!
لكن مع تدين السيسي، واسباغه الوضوء على المكاره، فإن من يصدق اخلاصه للمشروع الإسلامي يكون «مغفلا» باجماع الأئمة، وهل كان لمثله أن يترقي لرتبة اللواء في عهد مبارك وهو مؤمن بهذا المشروع، لكن العلم الديني بدون تدبر أفة، عندما يتم استدعاء «صلح الحديبية» مبتورا قبل فتح مكة، ويتم استدعاء الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم ايمانه، مع استبعاد شهادته الشجاعة «أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله..»، فهل جهر السيسي بشيء من هذا في عهد مبارك، وهو الذي جاء لميدان التحرير في يوم موقعة الجمل، لاخلائه بالقوة، وهو ما ذكره الدكتور محمد البلتاجي في برنامج تلفزيوني، قبل أن تحمله الجماعة على التراجع عن تصريحه ففعل في برنامج آخر! ردة الفعل على «الساعات الأخيرة» سياسياً منعت من تقييمه مهنيا، ففي الحقيقة الفيلم الذي يقوم على مصدر واحد، لا يمكن أن يكون فيلما مكتملاً، وكان يمكن استضافة «خالد القزاز» في برنامج «بلا حدود» وكفى الله الوثائقيات شر ما ينسب إلي جنسها قسرا.
وكون الفيلم لم يأت بجديد إلا أنه «قلب علينا المواجع». وكما قال العندليب: «موعود معايا بالعذاب يا قلبي»!
وسوم: العدد 814