الثورة تكشف مواطن اللّامبالاة التي نستبطنها
ظلّت حادثة تسمّم ووفاة 15 رضيعا بمستشفى الرابطة بمفعول "السيروم" الفاسد حديث الساعة طيلة الأسبوع الفارط. وهي تستحق هذا الإهتمام وأكثر، باعتبارها كارثة وطنية بكل المقاييس. وفي تقديري فإنّ هذه النوعية من الحوادث يعود مصدرها الأساسي إلى أمرين إثنين :
فأمّا الأمر الأوّل فهو أنّ لوبيات المال والفساد لا تزال قائمة وتضرب بقوّة، وهي لا تزال تتحكّم في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد في ظلّ شبه غياب لأغلب مؤسسات الدولة ومفاصلها. حيث لم تكف 8 سنوات من الثورة بما جاءت به من مظاهرات ومن احتجاجات ومن قوانين وإقرار تشريعات جديدة ضدّ الفساد من كبح جماح اللّوبيات المتنفّذة في البلاد منذ زمن الاستبداد. بل إنّ ما حدث كان هو العكس تماما حيث تمكّنت تلك اللّوبيات من مسايرة الثورة والتغلّب عليها في عديد المحطّات. لا بل وفرض أجندتها على كل الأطراف. فلقد تمكّنت تلك اللّوبيات ، لافقط، من إزاحة أغلب وزراء الصّحة (على سبيل الذكر لا الحصر) المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة (سليم شاكر عبد اللطيف المكي سعيد العايدي،عماد الحمامي،عبد الرؤوف الشريف)، بل و كذلك من، إعادة كل من تمّ عزلهم من الفاسدين إلى سالف مراكزهم. وتجاه هذا الوضع لم تول الحكومات المتعاقبة ولا سيما ما بعد انتخابات 2014 العناية الضرورية للسيطرة على الوضع وإصلاح ما يمكن إصلاحه. حيث تركت كل وزير وحيدا في مواجهة كل من اللّوبيات والنقابات. فيما أنّه في غير مستطاع أيّ وزير، مهما علا شأنه، في ميدان العلم والمعرفة والخبرة والنضال، الصمود لوحده أمام لوبيات المال والفساد والنقابات والقصف اليومي لقنوات العار بغير مساندة معنوية ومادية من الحكومة ومن مختلف مؤسسات الدولة ذات الصلة بنشاط وزارته. لذلك لا بدّ من التفكير في إحاطة الوزراء المعنيين المستهدفين، والمعرضين للابتزاز إلى حد التصفية الجسدية (وفاة وزير الصحة سليم شاكر في ظروف غامضة)، بمن يحصّنهم من بين الكفاءات العلمية والرموز النضالية إضافة إلى مختلف مؤسسات المجتمع المدني حتّى يكونوا لهم عونا وسندا وحصنا قويا للوقوف بشموخ وإباء أمام كل الإغراءات والتهديدات الممكنة من طرف لوبيات المال والفساد. بما لا يجعلهم يتراجعون عن ثوابتهم فيلجئون إلى الاستقالة والانسحاب من ساحة المعركة بل على العكس من ذلك يزيدهم إصرارا على المضي قدما في سبيل الإصلاح والتغيير.
وأمّا الأمر الثاني، فهو نفسي واجتماعي في آن معا. ذلك أنّ ظاهرة الإهمال واللّامبالاة والاستهتار المتفشّية في المجتمع لم تأت من فراغ، بل إنّها قفزت إلى السطح بتشجيع وبدعم مباشر من أعلى هرم السلطة. وذلك بانتهاج ما اصطلح عليه بتجفيف منابع التديّن وتشجيع كلّ السلوكيات الدنيئة التي تميت القلب وتكرّس الإهمال واللّامبالاة. ففرض التبرّج والتعرّي الفاضح والمخل بالحياء من قبل أعلى هرم السلطة وتشجيع المتبرّجات الكاسيات العاريات ودعمهنّ معنويا وماديا من قبل رئيس الجمهورية يجعل من التبرّج والتعرّي أمرا مقبولا لدى عامّة الناس بل ومرغوبا فيه. وهو ما تترجمه بأمانة مقولة "وإذا كان رب البيت للدف ضاربا ... فشيمة أهل البيت كلهم الرقص". فإذا كان رئيس الدولة تغلب عليه سمات الإهمال واللاّمبالاة والاستهتار فسيكون الشعب بمثل تلك السمات ولو بعد حين.
يظلّ المواطن على مدى سنين طويلة يعاين بأمّ عينه من يعتبره قدوة، يتصرّف في البلاد ولا رقيب ولا حسيب عليه. لا يسأل عمّا يفعل ولا يحاسب عمّا يرتكبه من أخطاء ومن جرائم في حق البلاد والعباد، فتصبح أمنيته أن يكون مثله ومكانه دون رقيب ولا حسيب. ولعلّنا نتذكّر ما اقترفه الرئيس الحبيب بورقيبة في حقّ الشعب التونسي حين افتعل حرب بنزرت ليصنع منها انتصارا له وزعامة زائفة. وتسبّب في موت آلاف التونسيين. ولكنّه لم يحاسب على فعلته أو جريمته تلك. كما نتذكّر أيضا تجربة التعاضد الفاشلة سنة 1968 التي تسبّبت في إفقار آلاف العائلات التونسية ثمّ تملّص من مسؤوليته الثقيلة في ذلك بتحميلها كلّية إلى الوزير أحمد بن صالح وبذلك خرج هو من الورطة كالشعرة من العجين. كما أنّه نسج نفس السيناريو في ما عرف بأحداث الخبز حيث حمّل المسؤولية الكاملة إلى رئيس بلدية تونس حين قال كلمته المشهورة : " غلطوني ونرجعو كيف ما كنّا قبل الزيادات" (وكأنّ شيئا لم يقع بعد كلّ الخسائر البشرية والمادية)
ولمّا استولى بن علي على الحكم نهب من أموال الشعب عشرات الآلاف من المليارات بدون رقيب ولا حسيب. ومهّد الطريق لأقاربه وأصهاره للاستيلاء على مفاصل التجارة و السطو على أهمّ الصفقات التي درّت عليهم مبالغ طائلة. وقد حدث ذلك بدون مسائلة ومن غير حسيب ولا رقيب. فيما كان الشعب حينذاك يرزح تحت خط الفقر في ظروف مزرية وضنكة ومؤلمة. إنّ هذه التصرّفات اللاّمسؤولة التي ترشح بكل معاني اللاّمبالاة والاستهتار هي التي، بالتأكيد، جعلت السواد الأعظم من الناس يتمنّى أن تأتيه الفرصة لتفكّ عنه القيود فيتصرّف كما يحلو له بدون رقيب ولا حسيب. وفعلا جاءت هذه الفرصة على طبق من ذهب مع ثورة 17/14. حيث خرجت أغلب الجماهير الثائرة والغاضبة على الوضع القائم ورفعت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" ليس من أجل فرض الحرية وإحلال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانضباط بالسلم الاجتماعي ولكن من أجل رفع المساءلة عن الشعب كله مثلما كانت مرفوعة عن بورقيبة وعن بن علي وحاشيتهما. وهو ما يعني أن تتصرّف هذه الجماهير كما يحلو لها بدون رقيب ولا حسيب كما كان يتصرّف بورقيبة وبن علي.
ولقد كان لها ذلك، حيث تحرّرت هذه الجماهير من أغلب القيود ورفعت عنها المساءلة وذلك بفضل "بلطجة" النقابات الراعي الرسمي لكل مناورات التخلّص من الانضباط والمساءلة. فبفضل النقابات تمّ إرجاع كل من تمّ رفتهم من عملهم وإقالة كل من كان سببا في ذلك. وبفضل النقابات أيضا تمّ تعطيل إنتاج الفسفاط لعدّة سنوات والتسبّب في خسارة تقدّر بآلاف المليارات من المليمات. ومباشرة بعد الثورة تمكّن كل مواطن من التخلّص من القيود التي كانت مفروضة عليه وتحقيق مطالبه بدون مساءلة. فمن أراد بناء 4 طوابق بدون رخصة كان له ذلك. ومن أراد الانتصاب الفوضوي كان له ذلك. ومن أراد الانخراط في التجارة الموازية كان له ذلك أيضا. وبإمكان أبسط موظّف في الدولة أن يمتنع عن تسديد خدمة لمواطن ويقول له "ارجع غدوة... الريزو طايح" بدون أن يتعرّض للمساءلة. وكانت حادثة اصطدام الباخرة التونسية بأخرى قبرصية في أكتوبر 2018 دليلا واضحا على حالة التسيب التي أصبح عليها الشعب التونسي. حيث لم يكتف طاقم السفينة التونسية بما حصل (40 مليون دينار خسائر). بل خرج علينا عبر الإنترنت وإعلام التواصل الاجتماعي يتهدّد ويتوعّد. وكأنّه يقول لنا كفانا انضباطا واتركونا نتنفّس ونسترخي قليلا ؟؟؟ وكأنّ الناس مصطفّون في صفّ طويل ينتظرون دورهم في الاسترخاء والهروب من المساءلة. وأخيرا وليس آخرا أجاز رئيس بلدية صفاقس لنفسه،هذه الأيام، شراء سيارة ب 160 ألف دينار ؟؟؟ بدعوى أنّ العملية مبوّبة في ميزانية 2019. وهو لعمري تطور ملحوظ في عالم الاحتيال واللاّمبالاة والاستهتار بالمال العام في زمن الثورة. فكأنّ المجلس البلدي أراد بذلك أن يقول للشعب الكريم 'إن كان بن علي يستولي على المال العام بدون مساءلة بقوّة الاستبداد، فإنّنا نقوم بذلك بقوّة القانون". ألا لعنة الله على الفاسدين في زمن بن علي وفي زمن الثورة. البلاد يتهدّدها الإفلاس وهم لا يتورّعون عن نهب البلاد والعباد! فكيف ستتحقّق عندئذ التنمية التي يطالب بها الشعب ؟ يا ملحَ البلد من يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد ؟ لذلك ندرك لماذا تأخّرت التنمية. لأنها مرتبطة بمدى تفاعل الشعب مع محاربة ظاهرة التسيّب واللاّمبالاة. إذ لا يمكن للوبيات الفساد أن تنجح في تخريب اقتصاد البلاد إذا لم تجد حاضنة شعبية. والحل في تقديري يستوجب تنظيم مؤتمر في الغرض والخروج بحلول جذرية للقضاء على ظاهرة التسيب واللاّمبالاة أو على الأقل التقليل من خطرها وضررها.
وسوم: العدد 816