حدث في الثاني عشر من رجب: السلطان سليم الثالث يتولى العرش العثماني

ولم يتسلم سليم العرش بعد وفاة أبيه لصغر سنه، فقد كان في الثالثة عشرة من عمره، وتسنمه عمه عبد الحميد الأول قرابة 15 سنة حتى وفاته، واهتم عبد الحميد خلال تلك الفترة اهتماماً كبيراً بتعليم الأمير سليم وتثقيفه، وتوفي السلطان عبد الحميد ليتولى سليم الثالث العرش في ظروف صعبة جداً، فقد كانت الإمبراطورية الروسية قد هاجمت شبه جزيرة القرم واحتلتها، وتحالفت مع النمسا في حرب اندلعت سنة 1787، واستطاعتا هزيمة الجيوش العثمانية فاحتلت روسيا معظم رومانيا، واحتلت النمسا صربيا ودخلت مدينة بلغراد.

وكان من شأن الأزمة لو استمرت في مسارها القديم أن تجعل الدولة العثمانية في مرمى الاحتلال الروسي، فقد سيطر اليأس على الجنود وكثر فرارهم من خطوط القتال، ولكن الثورة الفرنسية على الملكية، التي اندلعت في سنة1787، كانت قد بلغت ذروتها في منتصف سنة 1789، فدقت بسببها أجراس الخطر في قصور ملوك أوروبا، وتوفي الإمبراطور النمساوي، جوزيف الثاني في أوئل سنة 1790، وأعقبه ابنه ليوبولد الثاني الذي أهمه أمر الثورة الفرنسية ووصول نيرانها إلى النمسا، فسعى في إقامة تحالف أوروبي مضاد لها، ولذا سارع في سبتمبر 1790 إلى عقد اتفاق سلام مبدئي مع الدولة العثمانية أعقبته بعد سنة معاهدة سلام نهائية تخلت فيها النمسا عن صربيا وبلغراد وأغلب ما احتلته في الحرب، وتعرف بمعاهدة سيستوفا باسم المدينة الواقعة على الدانوب في شمال بلغاريا اليوم والتي وقعت فيها.

ومما يلفت النظر في المعاهدة فقرة تجدد فيها الدولة العثمانية التزامها بحماية جميع المراكب الألمانية التجارية من تعديات قراصنة بلاد المغرب وباقي رعايا الدولة، وأن تعوض أصحابها كل ما يلحق بهم من الضرر، وفقرة أخرى تتعلق بإعادة الأسرى إلى بلادهم، وتفيد: أنه حيث يوجد عدد عظيم من الأسرى من رعايا الحكومة النمساوية في حالة الرق بالممالك المحروسة فيتعهد الباب العالي اتباعا لقاعدة إرجاع كل شيء إلى ما كان عليه قبل الحرب بأن يرد إلى الحكومة الإمبراطورية الملوكية في ظرف شهرين من تاريخ التوقيع على المعاهدة كل من يوجد من رعاياها في حالة الرق أو أُخذ أثناء الحرب، ذكرا كان أو أنثى، أيا كانت سنه أو حالته، وفي حوزة من كان، وفي أي جهة من أملاك الدولة يكون، مجانا دون دفع فدية أو غيرها، بحيث لا يوجد من الآن فصاعدا رعايا لأحد الطرفين تحت حكم الآخر إلا الذين يدخلون في الدين الإسلامي من جهة وفي الدين المسيحي من جهة أخرى باختيارهم.

وتتعلق الفقرة الثانية عشرة من المعاهدة بتأكيد الباب العالي السلطاني إرجاع جميع الامتيازات الممنوحة للدين الكاثوليكي والمتعلقة بحرية ممارسة شعائره في الدولة العثمانية، وقيامه بحفظ وإصلاح كنائسه وحرية التردد على الأماكن المقدسة في فلسطين والتعبد فيها والحج اليها.

وكشفت معارك الحرب السابقة تفوق الروس والنمساويين بفضل اتباع جيوشهم الأساليب الحربية الحديثة، وأن الإمبراطورية العثمانية لم تعد كعهدها قوية صاحبة مبادرة، وطلب السلطان سليم من عدد من الخبراء تقديم تقاريرهم عن أسباب انحدار الإمبراطورية ومقترحاتهم لتستعيد مكانتها تحت الشمس، وتباينت آراء المستشارين، واستقر رأي السلطان على أن الوضع يتطلب تغييراً جذرياً للحاق بما وصلت إليه أوربا ثم للتقدم عليها، وهو بذلك أول مصلح في العالم الإسلامي يبني إصلاحه على التقنية الأوربية.

وأجمع المستشارون في تقاريرهم أن القوات الإنكشارية التي كانت عماد الجيوش العثمانية قد أصبحت سبب ضعفها، وذلك لرفضها تغيير أساليب تجنيدها وتنظيمها وقتالها في ساحة المعركة، وكانت هذه القوات أساساً تتعيش من أسلاب البلاد التي تفتتحها وتعود محملة بالغنائم، ولكنها ما عادت تتمكّن من ذلك بسبب تغير قوانين الحروب على الصعيد الدولي والتي أصبحت تمنع نهب المدنيين، وزاد الطين بُلَّة توالي الهزائم على الدولة العثمانية، فضعفت المعنويات العامة، وتراجعت هيبة الدولة، فصار الإنكشاريون يتعدون بالسلب والنهب على السكان الضعفاء ويقومون بالعصيان تلو العصيان حتى ترضيهم الدولة بشيء من الهبات، ثم استطال شرهم فأصبحوا يتدخلون في السياسة ويعتدون على كبار رجال الدولة ثم السلطان بالعزل أو القتل.

وبعد انتهاء الحروب استطاع السلطان التفرغ لإصلاح أحوال البلاد، وكان أول همه: تقوية الجيش وتأسيس قوات عسكرية منظمة ومدربة وفق الأسس العصرية، ولا تعتمد في معيشتها على الأسلاب، بل تتلقى رواتب منتظمة جرى توفيرها للخزانة بفرض ضرائب على مصادر كانت خُلْواً من الضرائب مثل التبغ والقهوة وأضيفت إليها الإقطاعات المصادرة، وكان السلاطين السابقون قد أسسوا بعض المدارس العلمية والعسكرية الحديثة واستقدموا لها عدداً من الأساتذة والضباط الأوروبيين، فالتفت السلطان لتوسعتها وتقويتها وجلب الخبراء والمدربين من السويد وفرنسا والمجر وفرنسا وبريطانيا، وأسمى السلطان هذه القوات: النظام الجديد، فقد كان يطمح أن تصبح الجيش الجديد القوي للسلطنة، ويتم الاستغناء نهائياً عن الإنكشارية التي انتهى دورها وتجاوزها التقدم الأوروبي في تقنية القتال وفنون الحرب.

ولم يمر هذا الأمر دون مشاكل، فقد أدى إلى مزيد من الاضطرابات التي أجّجها الإنكشارية احتجاجاً على هذه القوات التي حملت في صفوفها نهاية وجودهم ونفوذهم، فصارت الدولة بين خطر خارجي متربص وخطر داخلي تخبو ناره تحت الرماد وتندلع بين حين وآخر هنا وهناك.

ونتج عن حقبة الضعف المستديم أن بدأ ولاة الأقطار في التطلع للاستقلال والتقاعس عن دفع المستحقات السلطانية، وفي هذه الحقبة استبدّ المماليك في مصر بالحكم، وصارت السلطة العثمانية فيها شكلية إلى حد كبير، ومن مظاهر ذلك في سلطنة سليم الثالث ، عصيان بازوند أوغلو والي مدينة فدين في البلقان، وهي اليوم في أقصى الشمال الغربي في بلغاريا، وعدم تمكن الدولة العثمانية من سحق تمرده بعد 3 سنوات من بدايته، فاضطرت درءاً لتوسع العصيان وانضمام أمراء المناطق الأخرى إليه للوصول إلى اتفاق معه منحته فيه ولاية فدين طول حياته، وإن كان هذا لم يمنعه من متابعة غاراته وعدوانه على المناطق المحيطة به حتى موته في سنة 1807، ولعل أمره كان سابقة وأنموذجاً احتذاه بعده محمد علي باشا الكبير في مصر، حين قضى على المماليك واستولى عليها، مع بقائها الإسمي تحت راية السلطنة العثمانية، وكذلك محاولة داود باشا والي بغداد الاستقلال بالعراق.

وكان نابليون بعد مغادرته مصر إلى فرنسا قد استولى على مقاليد الأمور فيها، والغريب المؤسف أن تقوم الدولة العثمانية بعد 3 أشهر من زوال الاحتلال بعقد معاهدة مع نابليون بغرض تجديد العلاقات الودية مع فرنسا، وإعادة ما كان لها من تسهيلات وامتيازات من قبل الدولة العثمانية، ولعله دليل آخر على الوهن وخطل الرأي الذي استحكم في الدولة، ويقال: إن سبب ذلك أن روسيا احتلت جزائر المورة في اليونان، وأن بريطانيا ماطلت في الانسحاب من مصر، فشعرت الدولة العثمانية بالحاجة للانفكاك من تحالفها مع روسيا وبريطانيا وموازنة ذلك بالتقارب مع فرنسا، ويقول مؤرخون آخرون: إن سبب التقارب هو نجاحات نابليون العسكرية في أوروبا واحتلاله معظم بلدانها في فترة وجيزة نسبياً، وأن ذلك أثار إعجاب السلطان سليم الذي اعترف به عندما نصب نفسه إمبراطوراً على فرنسا في سنة 1219=1804، وأن السلطان كان تحت تأثير الجنرال فرانسوا سِبستياني مبعوث نابليون في الأستانة، الذي وعده أن فرنسا ستقف إلى جانبه إزاء التهديد الروسي، وكان ضرب الروس بالعثمانيين ينسجم مع خطط نابليون التي تضمنت الهجوم على روسيا واحتلالها.

ولكن مخططات نابليون لبناء إمبراطورية مترامية الأطراف ونجاحه في الهيمنة على أوروبا أثار أشد المخاوف لدى بريطانيا المنافس اللدود لفرنسا والتي خاضت معها الحرب تلو الأخرى، ولما هاجم نابليون روسيا وجدت في بريطانيا حليفاً قوياً، وبتشجيع من فرنسا عزل السلطان واليي مولدافيا والأفلاق، أو ولاشيا، اللذين كانا يميلان ميلاً شديداً لروسيا، ثم ارتكب السلطان خطأ كبيراً عندما انضم إلى فرنسا وأعلن الحرب في سنة 1806 على روسيا وبريطانيا، فشنت روسيا حربا برية على الدولة العثمانية لاحتلال ولايتي الأفلاق والبغدان، رومانيا حاليا، وألقت سفن الأسطول البريطاني مراسيها أمام مضيق الدرنديل، وأرسلت بريطانيا قائمة تضمنت مطالبها بأن تفك الدولة العثمانية تحالفها مع فرنسا، وتجلي الضباط الفرنسيين، وتمنح الولايتين الرومانيتين لروسيا، وتسلِّم لبريطانيا السفن العثمانية والموانيء الواقعة على الدردنيل، وإلا فإن مدافع السفن البريطانية ستدك استانبول.

وليظهر البريطانيون جديتهم في هذه المطالب قبل أن يتمكن العثمانيون من اتخاذ التدابير المعاكسة لها، عبر الأسطول البريطاني الدردنديل بقيادة الأدميرال دكورث، ودمر كل السفن العثمانية التي صادفها في طريقه، وقصف استانبول في يوم عيد الأضحى فأثار فيها الذعر والخوف، ثم عاد لحصار الدردنيل في انتظار الاستجابة لمطالب دولته.

ونعود هنا للحديث عن قوات النظام الجديد والتي ألغاها السلطان سليم الثالث في سنة 1211=1797 بعد تمرد قام به الإنكشارية وأيده بعض علماء الدين، ولكن القائد البحري حسين باشا كوشك الذي عز عليه أن يذهب هذا المشروع هباء منثورا قام على نفقته الخاصة بضم حوالي 600 من هؤلاء المجندين المسرحين وجعلهم في كتيبة عسكرية منظمة، وأجزل لهم الهبات حتى إنه اجتذب بعض الشباب من خارجهم، وكان الإنكشارية يهزؤون بهم تارة ويهددونهم أخرى.

ولما وقعت الحرب مع نابليون في مصر ثم بلاد الشام، سار حسين باشا بهؤلاء الجنود إلى عكا للدفاع عنها، وأثبتوا فعاليتهم وأبلوا بلاء حسناً واستطاعوا أن ينالوا من الجيش الفرنسي في المواجهات التي حصلت، فلما عادوا أمر السلطان سليم بضمهم للجيش وأن تنفق عليهم الحكومة، وانتهز السلطان وجود قادة الإنكشارية في مصر فتوسع في تشكيل القوات النظامية، وفَصلَ المدفعية عن الإنكشارية لتصبح سلاحاً مستقلاً، وخلال سنوات ثلاث تمكن من تشكيل ثمانية فرق من القوات النظامية في ولايات الأناضول، وقرر أن يضم لها في كل سنة عدداً من الجنود ينتقون من القوات الإنكشارية ومن الشبان المدنيين.

وفي سنة 1219=1804 تمرد في صربيا الصرب بزعامة جورج بتروفيتش على ولاتهم من الإقطاعيين الإنكشاريين، ولأول مرة تقف الحكومة في استانبول في طرف المتمردين، ذلك إن الدولة العثمانية لما فتحت البلقان أقطعت أراضيها إلى فرسان الجيش العثماني المعروفين بالسباهية، على أن تبقى تحت يد ملاكها الأصليين المسيحيين بشرط دفع جُعل أو خراج معين لمن أُقطعت له، وتركت للصرب حق انتخاب نبلاء بلادهم، ولكن الإقطاعيين استبدوا بالصرب وبالغوا في فرض الأموال عليهم، فنفرت قلوبهم وشاع التوتر في أراضيهم، ونجم فيهم قطاع الطرق، ولما نشبت الحرب بين الدولة العثمانية وبين النمسا وروسيا، انخرط كثير منهم في سلك الجيش النمساوي ضد الدولة العثمانية.

ولما وضعت الحرب أوزارها عاد الصربيون إلى بلادهم بعد أن تمرسوا بفنون الحرب وضروب القتال، وأُشربوا حب الحرية والاستقلال، ورغم أن عودتهم كانت في إطار عفو عام أصدرته الحكومة العثمانية بموجب اتفاقيتها مع النمسا، إلا أن الإنكشاريين احتقروهم واضطهدوهم لانضمامهم لأعداء الدولة ومحاربتهم في صفوفهم، وقام الإنكشاريون بنهب قرى الصرب والتعدي عليهم وإهانتهم، ولما اشتكى الأهالي من هذه المظالم ، أمرت الدولة والي بلغراد بمعاقبة الإنكشارية وإخراجهم من أراضي الصرب قاطبة، فلم يمتثلوا هذه الأوامر، فحاربهم الوالي وتغلب عليهم وأخرجهم من ولاية بلغراد، فالتحقوا بالمتمرد بازوند أوغلو الذي استقل عملياً بولاية فدين، فتوسط لهم لدى الباب العالي واستحصل لهم على الإذن بالعودة إلى ولاية بلغراد بشرط الالتزام بالنظام، ولكنهم بمجرد عودتهم استأنفوا اضطهادهم للصرب، ثم تطاولوا إلى محاصرة مدينة بلغراد بمساعدة بازوند أوغلو ودخلوها عنوة وقتلوا واليها وانتشروا في أطراف البلاد يعيثون في الارض فسادا.

وإزاء عجز الدولة لانشغالها بالحروب الخارجية توحد الصربيون للدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وانتخبوا جورج بتروفتش رئيساً عليهم، وطاردوا الإنكشارية حتى أبعدوهم عن الأراضي والقرى وصاروا يخشون الخروج من المدن لتربص الأهالي بهم، وأمرت الدولة بكر باشا والي البوسنة بمساعدة الصرب وطرد الإنكشارية من بلغراد، فأتى بجيشه وحاصرها مع بتروفتش حتى دخلاها وأخرجا الإنكشارية منها، وبعد ذلك رجع بكر باشا إلى ولايته، ولكن لم يرجع الاستقرار إلى بلاد الصرب، فقد استقر في أذهانهم ضعف الدولة العثمانية الذي حفزهم لطلب الاستقلال، وشجّعتهم عليه روسيا والدول الأوروبية الأخرى، وصاروا يطالبون بالاستقلال الإداري والحكم الذاتي، فأرسل السلطان الجيوش لقمع هذا التمرد واستمرت المعارك بين الطرفين بضع سنين دون نتيجة حاسمة إلى أن نشبت الحرب مع روسيا التي احتلت بلاد البلقان بمساعدة المتمردين. 

وفي يانينا في شمال غرب اليونان ساورت رغبة الاستقلال واليها الألباني علي باشا بعد أن حقق انتصارات على الفرنسيين حال حربهم مع الدولة العثمانية وعلى المتمردين الذين أوكلت له الدولة سحق تمردهم، فاعتصم بمنطقته في عصيان مبطن.

وسرعان ما أعلن الإنكشاريون اعتراضهم على هذا القرار وهددوا بالتمرد، ووجدوا لهم حلفاء في رجال الدين الذين توجسوا خيفة من التغيير واعترضوا على تقليد الكفار في لباسهم العسكري، وانضم إليهم ملاك العقارات المتذمرين من الضريبة التي وضعت عليهم لتمويل الجيش الجديد، وكذلك الشبان وأهلوهم من الذين سيطالهم نظام التجنيد الجديد، وبعد بضعة شهور بلغ التمرد حداً استولى فيه الثائرون على مدينة أدرنة، فطلب السلطان من أحد الولاة المعاضدين لمشروع التحديث أن يأتي بقواته إلى استانبول، فجاء ثم أرسله السلطان بعد شهر إلى أدرنة، فلم يتمكن من قمع التمرد الذي اتسع واشتد عنفوانه، فاضطر السلطان إلى ترضية الإنكشارية فعين رئيسهم في منصب الصدر الأعظم، وأمر بإعادة قوات النظام الجديد إلى ثكناتها في استانبول الآسيوية.

واندلعت شرارة تمرد آخر عندما أمر الوزير المسؤول قوة من الرديف الإنكشاري مسؤولة عن حماية البوسفور أن ترتدي الزي العسكري الحديث، فرفضت وتمردت ثم قتلت الوزير، واتسع التمرد الذي تسلم قيادته مصطفى قبقجي، وكان من الممكن القضاء عليه في مهده بسهولة، إذ كانت القوات الحديثة غير بعيدة عنه، ولكن الوزير موسى الكوسج أشار على السلطان ألا يأبه للتمرد فيعطيه أهمية لا يستحقها، وأخذ السلطان برأي الوزير، ولكن تبين فيما بعد أن الوزير وشيخ الإسلام عطا الله أفندي كانا خائنين متواطئين، وسار المتمردون إلى استانبول وفي الطريق انضمت إليهم فلول من جنود المناطق التي مروا بها، وأيدتهم إنكشارية استانبول وغيرها من المناطق، وحيث كانت الدولة في حالة حرب فقد كان أغلب الجيش على الجبهات، واستطاع قبقجي الوصول إلى استانبول في يومين، وحجر على السلطان سليم وأجبره على حل القوات النظامية بأكملها، وأعطى شيخُ الإسلام المتمردَ قبقجي قائمة بمن ينبغي إعدامهم من قادة القوات ورجالات الدولة، فاختفى هؤلاء ولكنه شدد التفتيش حتى وصل إليهم وأعدمهم في ميدان عام.

وعقد المتمردون مجلساً لمواجهة السلطان سليم، ومما قالوا له في المجلس: أنسيت أنك أمير المؤمنين، وأنك يجب عليك قبل كل شيء أن تراعي الإيمان وسلامة الإسلام، ولكن عِوضاً عن اتكالك على الله العظيم القادر الذي يبدد بدقيقة واحدة الجيوش الكثيرة العدد أردت أن يتشبه المسلمون بالكفار وأغضبت الله! فكيف يسوغ لك أن تكون أمير المؤمنين، ومحامياً عن الدين؟! إن العسكر الذين هم قوام مملكتك لم يعد لهم ثقة بك، والمملكة أضحت مضطربة!

ثم ما لبث أن أصدر شيخ الإسلام عطا الله أفندي فتوى بخلع السلطان هي في اختصارها وغموضها أنموذج لأغلب الفتاوى التي صدرت في حالات مماثلة، ونصها:

السؤال: السلطان الذي يخالف القرآن الشريف هل يُترك على تخت السلطنة؟ الجواب: كلا.

وخطب خطيب في العساكر قائلاً : قد صار معلوماً عندكم أنه تحتم عزل السلطان، فما قولكم الآن؟ هل تسلمون له بفعل ما يخل بالإسلام؟

فصرخت العساكر: كلا ثم كلا لا نقبله سلطاناً علينا فليعزل.

كان السلطان سليم الثالث نابغة في الفنون الجميلة من بين سلاطين بني عثمان، فقد كان شاعراً وخطاطاً وملحناً وعازفاً على الناي، ملماً باللغات الفارسية والعربية، ويعده المؤرخون من حيث رقي ثقافته ثاني سلاطين آل عثمان بعد السلطان مراد الثالث.

وفي عهد السلطان سليم الثالث دخلت الطباعة بالحروف العربية إلى الأستانة على يد محمد جلبي أفندي سفير السلطنة لدى فرنسا، والذي رأى فائدتها هناك وأراد نقلها إلى بلاده، ولم يكن الأمر سهلاً على ما يتصور، لأن الطباعة أثارت شكوك العلماء بادئ الأمر في أن تصبح وسيلة لتشويه الكتب الدينية أو تحريفها على نطاق واسع، وكان السلاطين السابقين قد أصدروا أوامرهم بمنعها، ولكن محمد جلبي استمال لمشروعه كبار رجال العلم والأدب، وحصل على تأييد الصدر الأعظم إبراهيم باشا صهر السلطان، الذي أصدر أمراً بالسماح بإنشاء المطبعة وطبع كل الكتب إلا الدينية كالتفسير والحديث والفقه، ثم استصدر محمد جلبي فتوى من شيخ الإٍسلام عبد الله أفندي هذا نصها:

ما قولكم - دام فضلكم - في ما يقوله زيد ويدعيه عمرو من أنه يقدر على نقش صور كلمات وحروف المؤلفات في العلوم الآتية: القواميس والمنطق والحكمة والفلك، وجمعها في قالب، وطبعها على الورق، واستحصال نسخ كثيرة من هذه الكتب، فهل يجوز له ذلك شرعاً؟ أفتونا مأجورين. 

وكانت الفتوى: إن زيداً الذي برع في صناعة الطبع إذا نقش صحيحاً على الورق فإنه يحصل على نسخ كثيرة من غير عناء وتعب، وهذا مما يستوجب رخص أثمان الكتب والمؤلفات، ومن ثم تتداولها الأيدي، وبذلك تعم الفائدة وتشمل كل طبقات الناس. وعليه يجوز شرعاً الطبع على الوجه المذكور، ويستحسن تأليف لجنة لتصحيح الكتب المراد نقشها، والله أعلم. وهكذا انفتح السبيل أمام المطبعة لطبع الكتب من كل المواضيع، ويقال إن أول كتاب طبع هو "صحاح" الجوهري وكتاب" تحفة الكبار في أسفار البحار" المعروف بتاريخ حاجي خليفة.

وسوم: العدد 816