الجيل المحظوظ
الجيل الذي استنشق عبير الحِبر علي أوراق رسائل الغرام والاطمئنان علي الأقارب والأحباب، ويكتب علي المظروف شكرا لساعي البريد.
ثم أدرك الهاتف في دوار العمدة إن كان من الريف أو في شقة أو اثنين من شقق الجيران في المدن.
الجيل الذي كان يقف في الأعياد والمناسبات في طابور السنترال ينتظر دوره في خلو الكابينة ليحظي بدقائق إن أسعفته جودة الخطوط الهاتفية ليبلغ سلامه وأشواقه للأحبة، ثم يخرج منها بين مبتسم بعد الاطمئنان علي الأهل والأحباب، أو كاسف البال من لوعة الفراق.
ثم دار به الزمن وأصابته الدهشة وهو يري جهاز اسمه "الفاكس" يضع فيه الرسالة الورقية ثم يدق علي أرقام في لوحة الأرقام فتخرج من جهاز آخر في مكان آخر في نفس اللحظة، ثم أدرك "البريد الإليكتروني"، ثم ضم العالم كله بين يديه وطوي المسافات بين أقطار الأرض من خلال جهاز بين يديه يسمونه "الهاتف الذكي".
محظوظ ذلك الجيل الذي انطلق في الشوارع والحارات يمارس مع الأحباب والأصدقاء الألعاب الجماعية، ويجتمع معهم في المساء في جلسات السمر، قبل أن يري أبناءه في عزلة طوعية بين أربعة جدران يمارسون الألعاب الاليكترونية.
محظوظ ذلك الجيل الذي تعرف علي أخبار العالم وفنونه من خلال "المذياع"، واتسع خياله خلف الدراما وبرامج الأطفال، وتعلقت آذانه بسماع أذان الشيخ رفعت قبل الإفطار، ثم أدرك ذلك الاختراع العجيب الذي يسمونه "تليفزيون" الذي حول الخيال المسموع إلي صورة مرئية، واجتمع مع الجيران في أول بيت يدخله التليفزيون ليتشاركوا الدهشة والمتعة.
محظوظ ذلك الجيل الذي شرب الماء البارد من ذلك الوعاء الفخاري المزركش والممتد في عمق التاريخ امتداد الطين في الأرض، والمسمى "القُلَّة"، ثم أدرك جهازا كهربائيا يسمونه "الثلاجة"، بدأت في بيت واحد من الجيران، يلتفون حوله قبيل الإفطار في رمضان ليأخذوا حصتهم من الثلج في حر الصيف.
محظوظ أنا ابن هذا الجيل، والذي كانت والدتي كثيرا ما تُغْلِق باب شقتنا وتنسي المفتاح بالداخل، ثم تقول لي: لا تقلق؛ فمفتاح جارتنا "أم مشمش" وجارتنا "أم سعيد" نفس مفتاح بيتنا.
يا ابني : البيت كله أسرة واحدة.
وسوم: العدد 819