قدوة القيادة في الإسلام 11
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الحادية عشرة: المفاوضات مع الأعداء 2
د. فوّاز القاسم / سوريا
ثانياً : المفاوضات المباشرة :
1_ المفاوضات المباشرة الفرديّة :
عتبة بن ربيعة وجهاً لوجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال ابن اسحق : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال: حُدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش : ألا أقوم إلى محمد فاُكلّمه ، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ، وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون .؟ فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده ، حتى جلس إليه .
فقال : يا بن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطةِ في العشيرة ، والمكان في النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرَّقت به جماعتهم ، وسفَّهت به أحلامهم ، وعبتَ به آلهتهم ودينهم ، وكفَّرت به من مات من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً ، تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد ، أسمع .
قال: يا بن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً .
وإن كنت تريد به شرفاً ، سوَّدناك علينا ، حتى لانقطع أمراً دونك . وإن كنت تريد به ملكاً ملَّكناك علينا . وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فانه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه .
حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه ،
قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم .
قال : فاسمع مني . قال : افعل .
فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (( حم ، تنـزيلٌ من الرحمن الرحيم ، كتاب فُصِّلت آياتُه قرآناً عربياً لقوم يعلمون ، بشيراً ونذيراً ، فأعرض أكثرُهم فهم لا يسمعون ، وقالوا قلوبنا في أكِنَّةٍ مما تدعونا إليه ..)).
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلما سمع منها عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد.
ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك .
فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به .!
فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد .؟
قال : ورائي أني سمعت قولاً ، والله ما سمعت مثله قط .!
والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة .!
يا معشر قريش ، أطيعوني ، واجعلوها بي ، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه . فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكُه ملكُكُم ، وعزُه عزُكم ، وكنتم أسعد الناس به .
قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه .
قال: هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم … هشام1 ( 293 )
الدروس والعبر
نستفيد من هذا النص الرائع للمفاوضات المباشرة ، الدروس والعبر التالية :
* نجاح الدعوة الإسلامية :
ويعكس هذا النجاح ، التحول الواضح في اللهجة التفاوضية المعادية ، ويدل عليه ما يلي :
المبادرة جاءت من المشركين أيضاً كما في المرة الأولى :
( ألا أقوم إلى محمد فأكلمه) .
2. ارتفاع مستوى التمثيل الدبلوماسي :
إن اختيار عتبة بن ربيعة ، للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يعكس تحولاً واضحاً من حيث الجدية والاهتمام بأمر الدعوة والدعاة .
3. لهجة التنازلات التي تعكسها عبارة ( فنعطيه أيها شاء) تدل على ذلك التحول الواضح .
4. التودد في الخطاب ( يا بن أخي ) يكررها أكثر من مرة .
5. المدح لشخص النبي صلى الله عليه وسلم .( يا بن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطةِ في العشيرة ، والمكانة في النَّسب ) . السطة = الشرف
* جدول أعمال الجانب المشرك :
يبرز في هذه الجولة من قبل الطرف المعادي محوران رئيسيان :
الأول : محور الاتهام : والذي بدأه المشركون من قبل في جولاتهم غير المباشرة ويشمل :
1. الاتهام بتهديد الوحدة الوطنية ( فرَّقت به جماعتهم ) .
2. الإساءة إلى البلد والحكام ( سفهت به أحلامهم) .
3. التطاول على التراث و المقدسات ( عبت به آلهتهم ) .
4. الاتهام بالجنون واللوثة العقلية .
والثاني : هو محور الإغراء :
1. الإغراء بالمال : ( جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً).
2. الإغراء بالجاه : ( سودناك علينا) .
3. الإغراء بالملك : ( ملكناك علينا ) .
ويلحظ هنا غياب جانب التهديد ، الذي برز في الجولات السابقة ، وذلك نظراً لتغير المواقف بتغير الظروف.
فالظرف بعد تنامي النجاح الإسلامي ، ظرف إغراء واحتواء ، وليس ظرف تهديد ، وقتل ، واستئصال .!!
* ما هو رد المفاوض المسلم ؟
لقد أبرز الموقف التفاوضي للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجولة ، جملة من الدروس التربوية ، نجملها في محورين رئيسيين :
الأول : التمسك بالمبادئ : وهذا هو دأبه دوماً ..
الثاني: البراعة في العرض والأسلوب .
فبراعة اختيار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لسورة فُصِّلتْ ، التي تخاطب المشركين مباشرة ، والتي تحتوي ذلك الحشد من المعاني .
مع براعة عرضها بأروع أسلوب ، وألطف عبارة .
مع أدب الحوار الجم ، وأدب الكلام ، وأدب الإنصات والاستئذان …
كلها ساهمت في حصد النقاط ، وكسب الجولة التفاوضية بجدارة ..
ليس فقط في موضوع الجلسة بالذات ، وهو التصالح بين الطرفين .
بل حتى في هز أعماق المفاوض المشرك ، ومحاولة كسبه للجانب المسلم .!
وفعلاً .. فقد خرج عتبة من هذه الجلسة مبهوراً مهزوزاً مهزوماً .!
ولولا العنجهية الفارغة للجاهلية ، والعزة بالإثم ، لأعلن إسلامه من فوره … أما إذْ لم يفعل … فلن تعدم الحركة الإسلامية من تفتيت الجبهة المعادية بإخراجه منها ، ليقف في الصف المحايد ، بل يساهم في تخذيل الصف المعادي وتثبيطه ( يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه .. ).هشام1(294)
2_ المفاوضات المباشرة الجماعية :
قال ابن اسحق : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء . وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين .
ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة ، عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، وأمية بن خلف ، وغيرهم .
اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض :
ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه .
فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأْتهم .
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً ، وهو يظن أنه قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء . وكان عليهم حريصاً، يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم . فقالوا له : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك . لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرّقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك . أو كما قالوا .!
فان كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً . وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا . وإن كنت تريد به ملكاً ، ملكناك علينا .
وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما بي ما تقولون . ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم . ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم . فان تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة . وإن تردوه علي ، أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )) .
قالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك .
فانك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ، ولا أقل ماءً ، ولا أشد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسيّر عنّا هذه الجبال التي ضيقت علينا ، وليـبسط لنا بلادنا ، وليفجِّر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق .
وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيُّ بن كلاب ، فانه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول ، أحق هو أم باطل .!؟
فان صدّقوك ، وصنعت ما سألناك ، صدّقناك ، وعرفنا به منزلتك من الله ، وأنه بعثك رسولاً كما تقول .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ما بهذا بُعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، وقد بلَّغتكم ما أُرسلت به إليكم ، فان تقبلوه ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي ، أصبر لأمر الله تعالى ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )).
قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا ، فخذ لنفسك . سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك . وسله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة ، يغنيك بها عما نراك تبتغي ، فانك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً – أو كما قال – فان تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليَّ ، أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )).
قالوا : فأسقط السماء علينا كسفاً كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعله بكم ، فعل )).
قالوا : يا محمد أفما علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به .!؟
إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك ما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا .
وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهي بنات الله .
وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا..
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام عنهم .
وقام معه عبد الله بن أبي أمية ، وهو ابن عمته ، فقال له :
يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل منهم .
ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ، ويصدقوك ويتبعوك ، فلم تفعل .
ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل .
أو كما قال .. فوالله لا أؤمن بك أبداً ، حتى تتخذ إلى السماء سلماً ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقوك .!!
وأيم الله ، لو فعلت ذلك ، ما ظننت أني أصدقك .!!!
ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم …
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أهله حزيناً آسفاً ، لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه ..
الدروس والعبر
نستخلص من هذا النص الرائع والمفصل لهذه الجولة الهامة من المفاوضات الجماعية المباشرة ، الدروس والعظات التالية :
* لا تزال قريش هي المبادرة لطلب المفاوضات ، وذلك لما تراه من نجاح الدعوة ، وانتشارها ، وازدياد عدد المسلمين ، وما تخشاه على نفوذها ، وسلطانها ، ومصالحها منها …
* لا يزال الجدول التفاوضي للمشركين على ما هو عليه ، ولا تزال الورقة التفاوضية المشركة تحتوي على :
المزيد من الاتهام :
التلاعب بالدين .
تهديد الوحدة الوطنية ، وإثارة النعرات الطائفية .
الخروج على القانون والأعراف والتقاليد …
الجنون واللوثة العقلية .
العمالة للأجنبي (يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن).
الإغراء
1-بالمال .
2-والجاه . وفي بعض الروايات بالنساء أيضاً ..
3-والملك .
التعجيز: وهو عنصر جديد دخل على الخط في هذه الجولة من المفاوضات ويشمل :
1_ طلبات تعجيزية ، لكن مردودها للمشركين أنفسهم :
توسيع البلد
بسط العيش
بسط الأرض
إحياء الموتى من الآباء والأجداد..
إكثار الماء
رفع الجبال ونقلها
تفجير الأنهار
2_ طلبات تعجيزية ، لكن مردودها على النبي صلى الله عليه وسلم:
أن يرافقه ملك من السماء .
أن تكون له جنان وقصور وكنوز من ذهب وفضة..
3_ طلبات وقحة وغبية:
إسقاط السماء عليهم كسفا .
اتخاذ سلم إلى السماء .
إنزال الشهود من الملائكة .
التهديد : ثم عادت لغة التهديد والوعيد لتحسم النقاش ، وهي نفس العادة القميئة التي يلجأ إليها الطغاة كلما أعيتهم حيلة الحوار والمحاججة ، كما ذكرنا ..
( وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا ) .
* موقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
لقد تمخض موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الراسخ ، وأسلوبه الرائع ، في إدارة هذه الجلسة الهامة من المفاوضات ، عن جملة من الدروس والعبر والعظات التربوية ، تصلح أن تدرس في أعلى المعاهد والجامعات والأكاديميات المتخصصة في فن الحوار والتفاوض .
الإصرار على المبدأ :
نفس العبارات الهادئة الراسخة ، كان يرددها النبي صلى الله عليه وسلم إزاء كل موجة من موجات الإغراء ، والتعجيز ، والتهديد …
(( الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليَّ كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فان تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليَّ، أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )).
المرونة في الأسلوب :
لم ينفد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحافظ على ضبط النفس، وهدوء الأعصاب ، حتى آخر لحظة ، بالرغم من كل الاتهامات ، والتعجيزات ، والتهديدات الوقحة ، والتي كانت تبلغ أحياناً حدّاً لا يطاق ..!
ونؤكد هنا ما أكدناه مراراً ، من أن المرحلة مرحلة استضعاف ، ولم يكن فقه مرحلة الاستضعاف يسمح للنبي صلى الله عليه وسلم بالخروج عن خطته المرسومة ، في الصبر ، والتحمل ، وامتصاص الصدمات ، والإصرار على الحق ، والمضي على الطريق ، مهما بلغت درجة الاستفزاز …!
إيتوني بشخص واحد في الدنيا يتحمل كل هذه اللائحة من الاتهامات،
بالجنون ، والكذب ، والسحر ، والكهانة ، والخرف ، والتخريب ، والعمالة للأجنبي . ويتحمل التعجيز ، والوقاحة ، والتطاول على الله والملائكة والرسل . ويتحمل التهديد بالقتل ، والتصفية الجسديّة، صباح مساء .!!!
ثم لا ينفعل .. ولا يند بكلمة .. ولا يخرج عن الخطة .. ولا ينحرف عن المسار .!
إنه لا مكان في قيادة الجماعات المجاهدة ، والأمم الناهضة ، للنزوات ، والاندفاعات ، والتهورات .!!
إنها الخطة المحكمة ، وإنه فقه المرحلة ، وإنه النفَس الطويل ، والصبر المرير ، حتى تتحقق الأهداف …
(( وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )).
عدم استغلال الدعوة لتحقيق المكاسب الشخصية :
لقد وضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا ، وسيق له كل ما يطمع به أصحاب المغامرات ، والانقلابات ، من ملك ، وجاه، ومال ، ونساء ، وسلطان .! فركل كل ذلك بقدميه وقال :
(( ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم)).
إن القيادة في الدعوات الربانية ، مغرم لا مغنم ، وإن التصدي للمسؤوليات في العمل العام ، يجب أن لا يقود أصحابه إلى الثراء على حساب مصائب الدعوة ، وجراحات الدعاة …!!
4- إنهاء الجلسة وحسم الخلاف :
إذا كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في مرحلة الاستضعاف ، تقتضي المزيد من الصبر ، والحكمة، وهدوء الأعصاب ، وضبط النفس ، وعدم الانفعال ، وعدم الاندفاع بتصرفات غير محسوبة ، قد تجر على الدعوة ما لا تحمد عقباه ..
فان للصبر حدود كذلك ، وللتحمل نهاية .
ولا أحد يجبر المفاوض المسلم ، على الاستمرار في جلسة محكوم عليها بالفشل مقدماً ، وقد وصلت إلى طريق مسدودة ، وتطاول فيها الخصوم بمنتهى الوقاحة على الله والقيم والمبادئ.
( فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام عنهم )…
5-الحزن على فشل المفاوضات :
قد يكون الحزن مشروعاً ، عندما تفوت على الداعية فرصة ، كان يمكن أن يحقق من خلالها فتحاً لدعوته ، أو نصراً لدينه .
ولكن الدعاة أبداً لا يهتمون بذواتهم ، ولا ينشغلون بحظوظ أنفسهم .
ولا يخطر ببالهم ، أن يقدّموا مصلحة أجسادهم الفانية ، على مصلحة دعوتهم الباقية ( وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً آسفاً ، لما فاته مما كان يطمع به من قومه )..