في لحظة غفلة..
في يوم من أيام الربيع.. في ساعة الظهيرة.. بعد انتهائي من عملية استئصال مرارة في المستشفى وانصرافي.. وقبل أن تحلّ فترة عملي المسائية.. اصطحبت زوجتي إلى ضاحية من ضواحي مكة لمشاهدة مجموعة شقق كانت حصيلة بحثي في المنطقة خلال الشهر الماضي، لنختار منها الشقة التي سننتقل إليها على مقربة من مكان عملي الجديد..
شاهدنا إحدى الشقق ثم مررنا على أخرى فوجدناها قد استؤجرت، ثم قامت صلاة الظهر فوقفنا لصلاة الظهر في مسجد مجاور لنستأنف بعدها الجولة..
وبالرغم من التزامي مؤخراً بربط حزام الأمان في السيارة، لكن ما كنت لأربطه في جولة سننزل فيها من السيارة كل خمس دقائق.. حتى يقع قدر الله..
خطأ في التقدير يؤدي إلى ارتطام شديد لم أشهد مثله منذ أمسكت بمقود السيارة قبل خمسة وأربعين عاماً، وإصابة مباشرة بكتفي الأيسر أحسست فيها أن عظامي تهشّمت، وإصابة بليغة في الجانب الأيسر لسيارتي، وتحطّم كامل مقدمة السيارة الأخرى التي كانت تقل عائلة مع طفلتين.
ومع قدر الله يكون لطف الله..
لا بد من الاعتراف ابتداء أنه كان خطئي في الدخول المباشر من شارع الخدمة إلى الشارع الرئيسي الملتف الذي تظلله أشجار كثيفة ولم يكن مكشوفاً بقدرٍ كاف، بالإضافة إلى السرعة العالية التي كان سائق السيارة الأخرى يسير فيها وربما لولا ذلك لأمكن تفادي هذه الحادثة..
حمدت الله كثيراً أن الطفلتين لم تصابا بأذى، وكل شيء بعد ذلك هيّن..
وحمدت الله على لطفه في إصابتي، كان يمكن لهذه الإصابة أن تعلو قليلاً عن الكتف فتصيب العنق، وأكمل حياتي بشلل رباعي على كرسي متحرك، خاصة بعد أن وصفت لي زوجتي المشهد الذي لم أره ولم أعه جيداً؛ ارتطام رأسي بالزجاج الأمامي ثم ارتداده وارتطامه المتكرر عدة مرات، ما يسمّى بإصابة سَيْر السوط، التي تشبه حركة سير السوط وقد تؤدي إلى مصع الرقبة وقطع الحبل الشوكي.
لكن الله لطف، وخرجت بكسر متفتت في الطرف الوحشي لعظم الترقوة الأيسر المتصل بالكتف، وخضعت لجراحة تثبيت لم تنجح كثيراً، لكن انتهت بوضع وظيفي مقبول ولله الحمد.
* * * * *
في لحظة غفلة لا نلقي لها بالاً يقع قدر الله فينقلنا نقلة لا نعرف مقدارها..
نقلة من حال إلى حال آخر قد يختلف جذرياً.. ومن حياة إلى حياة قد لا تمت بصلة للحياة التي كنا نحياها.. ومن عالم إلى عالم آخر.. ومن مصير إلى مصير غيره..
يسوق المرء السيارة دهراً، لكن لا يلزمه إلا لحظة غفلة ليخوض طريق موت أو إعاقة تلزمه إلى قبره.. لحظة واحدة قد تفصلنا عن ميتة بشعة أو إعاقة دائمة..
ونبقى نطمع في لطف الله ونتطلّع إليه..
* * * * *
وما أهون هذا أمام لحظة غفلة وهوى تفصل إنساناً نشأ وعاش مؤمناً عن السقوط في طريق معصية أو ضلال قد يقوده إلى هاوية لا يرجع منها ولا ينجو..
هذه هي الخسارة الكبرى التي لا تعدلها خسارة، وهي الخسارة التي تُعوّض أبداً..
نسأل الله الثبات وحسن الخاتمة..
* * * * *
وأتذكر دعاء أمي حفظها الله منذ وعيت: "اللهم أجرنا من ساعة الغفلة"
اللهم أَجِرْنا من ساعة غفلة...
رمضان 1440 هـ
وسوم: العدد 827