في تداعيات الانتخابات الإسرائيلية المبكرة
للمرة الأولى في تاريخ الكيان الصهيوني، تُعاد انتخابات الكنيست من جديد قبل تشكيل الحكومة، بعد أن فشل بنيامين نتنياهو في تأليفها، إثر خلافه مع أفيغدور ليبرمان على القانون الذي ينظم خدمة اليهود المتدينين في الجيش الإسرائيلي، وعدم حصوله، مع بقية أحزاب اليمين الصهيوني، على الأغلبية الكافية لتشكيل حكومةٍ مستقرّةٍ تفي بطموحاته السياسية (كملك لإسرائيل)، وبرغبته في تأمين حصانة قضائية له من تهم الفساد التي تلاحقه. وسيؤدي قرار حل الكنيست الجديد إلى بقاء شكل الحكومة في الكيان الصهيوني قرابة عام، من ديسمبر/ كانون الأول 2018 وحتى نهاية هذا العام، لتصريف أعمال، تتحكم في قراراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية أجواء التنافس الانتخابي، ومحاولة كسب أصوات الناخبين في الانتخابات المقبلة.
بداية، ينعكس هذا القرار على ما عُرف بـ "صفقة القرن"، ولعله يمكن القول هنا، وبصوت عالٍ، إن هذه الصفقة، على مستوى الإعلان عنها مشروعا سياسيا قد لفظ أنفاسه الأخيرة، بعد قرار حل الكنيست، وهي التي تأجل إعلانها طوال الفترة الماضية انتظارًا لانتهاء الانتخابات، وتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة. وسيؤدي إعلان وفاة هذه الصفقة إلى عدم قدرة نتنياهو على اتخاذ أي قراراتٍ على مستوى الترتيبات التي تتعلق بالمناطق المحتلة في هذه الصفقة، ضمن أجواء الانتخابات، فهو لن يغامر بقراراتٍ قد تُفقده بعض الأصوات في حمّى معركة انتخابية
شرسة. التأجيل المتوقع للإعلان عن "صفقة القرن"، فضلًا عن أن بعض مخرجاتها، مثل الاعتراف الأميركي المتوقع بضم المستوطنات لإسرائيل، لن يجد تشريعًا قانونيًا له في غياب الكنيست، وذلك على عكس الاعتراف بالقدس أو بضم الجولان اللذيْن قرّرت إسرائيل منذ زمن بشأنهما. ولا يعني ذلك توقف الإجراءات الأميركية والصهيونية في سعيهما إلى إنهاء القضية الفلسطينية، فهي ستتواصل على الأرض بشدة أكثر، كسبًا لأصوات أكثر من 800 ألف مستوطن، وزيادة وتيرة إجراءات الأبارتايد والتميز العنصري في أرجاء الوطن المحتل، ولكن من دون تسويغ قانوني. وقد تعلمنا من التجربة أن الإجراءات القانونية تأتي لاحقًا للمتغيرات الديمغرافية وللممارسات العنصرية وليس قبلها، فالعدو لا يحتاج إلى قانون يبرّر به تصرفاته تجاه العرب في فلسطين، وهو لا يخفي هدفه الجلي بالسعي إلى اقتلاعهم من أرضهم. سيخفت مرة أخرى الحديث عن المصالحة الفلسطينية التي اعتقد بعضهم أن ضرورة وحدة الموقف في مواجهة صفقة القرن تحتّمها، فهذه الصفقة أخذت تبتعد. وسيعود الوهم بإمكان أن تُحدث الانتخابات الإسرائيلية المرتقبة تغييرًا في المجتمع الصهيوني، يسمح بأنصاف حلول، وهو الوهم السائد والمتجدّد منذ اتفاق أوسلو. لذا، لن يغامر أولئك المتمسّكون بهذا الحل بالسعي إلى مصالحة جدية قائمة على مقاومة الاحتلال، وسيفضلون شراء الوهم بمتغيراتٍ مقبلةٍ في المجتمع الصهيوني، لرأب الصدع وإنجاز مصالحة تاريخية. كذلك ستزداد أزمة السلطة الفلسطينية الاقتصادية، نتيجة استمرار توقف تحويل أموال المقاصّة على الضرائب الفلسطينية التي تجبيها سلطات الاحتلال، والتي توقفت عندما رفضت السلطة الفلسطينية تسلمها بعد إعلان الحكومة الإسرائيلية اقتطاع المبلغ المدفوع لأسر الشهداء والأسرى من المبلغ المحوّل. حينها ظن المتنفذون في السلطة الفلسطينية أنها سحابة صيفٍ ستنتهي سريعًا بعد تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وأن سبب هذا القرار لا يتعدّى أجواء المزايدات الانتخابية بين الأحزاب الصهيونية. من الصعب الآن على حكومة تصريف الأعمال الصهيونية وقف هذا القرار، ومن الصعب على السلطة الفلسطينية القبول العلني به، بذلك وقع الطرفان في شباك المزايدة السياسية على جمهورهما، علمًا أن السلطة الفلسطينية لا تملك أي أدواتٍ رقابيةٍ على أموال المقاصّة التي تتقاضى إسرائيل نسبة 3% منها، مقابل قيامها هي وحدها بعمليات المحاسبة والتدقيق، وحسم فواتير العلاج في المستشفيات الصهيونية، والكهرباء والمحروقات والمياه، وتسليم الرصيد المتبقّي، بحسب زعمها، إلى السلطة. وكان بإمكان الحكومة الإسرائيلية حسم هذا المبلغ وغيره، كما تفعل دومًا، من دون إحراج السلطة الفلسطينية كما فعلت. في قطاع غزة، ستتراجع احتمالات الحرب الشاملة التي راج توقعها بعد التشكيل الذي لم يتم للحكومة الإسرائيلية. اختلف الظرف الآن، ولن تعود هناك حكومة تتحمّل مسؤولية هذا القرار أو تمتلك الدافع لتنفيذه في ظل الانتخابات. سيكون الموقف مماثلا تمامًا لما حدث من اشتباكات متقطعة خلال العام المنصرم. لن يتحمل نتنياهو وحده مسؤولية حربٍ شاملة، وسيقيد إجراءات
القيادات العسكرية، لكنه أيضًا لن يسمح بتسهيلاتٍ إضافيةٍ لقطاع غزة، وسيستمر في تضييق الخناق عليه ومحاصرته. كذلك سنشهد جولات كرٍّ وفر، وتسهيلاتٍ مؤقتة، وحصار خانق، وتسوياتٍ لا تلبث أن تُنقض، يقوم فيها النظام المصري بدوره المعتاد، وستبقى غزة على حافة الحرب من دون الوصول إلى نهاياتها، وضمن دائرة حصارٍ يشتدّ ويخفت، وفي ظل ذلك ستتمكّن المقاومة من انتزاع مكتسباتٍ هنا وهناك. ينطبق المشهد في غزة على ما يمكن أن يحدث في سورية ولبنان. كان ثمّة احتمال كبير لمواجهةٍ كبرى هناك، ترتبط بالصراع مع إيران من جهة، عبر ضربها في الأطراف، بدلًا من الدخول في مواجهة مباشرة معها. ومن جهة أخرى، التخلص من المخزون الصاروخي الذي تراكم في سورية ولبنان لدى حزب الله وقوات الحرس الإيراني، وبات يشكّل تهديدًا جدّيًا على الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني. يتقلص هذا الاحتمال بشكل كبير في ظل استمرار حكومة تصريف الأعمال، مع استمرار الضربات الإسرائيلية المتكرّرة على مواقع الصواريخ في سورية. المتغير المتوقع هو الرد على مثل هذه الضربات، وهو ردٌّ سيزداد بالتدريج، من دون الوصول إلى مواجهةٍ واسعة، وقد تُفرض قواعد اشتباك جديدة على هذه الجبهة أيضًا. ستسعى الولايات المتحدة ومعها نتنياهو إلى زيادة التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل، وجعله أكثر علنية، وسيُسجَل ذلك إنجازا لنتنياهو، لكن قمة البحرين الاقتصادية لن يعود لها جدوى ولا قيمة. قد تُعقد للمحافظة على ما تبقى من ماء الوجه للقائمين عليها، وقد يتم تأجيلها في اللحظات الأخيرة، وفي جميع الأحوال، تبخّر هذا الحل الاقتصادي بتراجع الإعلان عن صفقة القرن الموعودة. هل ثمّة استثناء لهذا السيناريو؟ نعم، وفي حالة واحدة، هي أن يقدّم ترامب شبكة أمان لنتنياهو،
عبر الضغط الأميركي على القيادات الصهيونية المختلفة، من خصوم نتنياهو، لدعمه وتأييده، في ما يشبه إجماعًا صهيونيًا داخليًا يتوافق مع سياسةٍ أميركيةٍ قد تدفع المنطقة إلى شفير حربٍ كبرى، وهو احتمالٌ لا يبدو قريبًا، في ظل المعطيات الحالية. تبقى نقطةٌ واحدةٌ تتعلق بالصوت العربي في الانتخابات المقبلة؛ ثمّة أصواتٌ تدعو إلى إعادة تشكيل القائمة العربية المشتركة، وهناك أصواتٌ ترتفع بضرورة مقاطعة الانتخابات، مع الإشارة إلى عدم جدوى التمثيل العربي في الكنيست، مستندة إلى ضعف الإنجاز والتأثير، وجنوح الكيان الصهيوني أكثر فأكثر باتجاة سياسة الأبارتايد والتمييز العنصري، وهي سياسة متأصلة في الفكرة الصهيونية ذاتها. وفي جميع الأحوال، المهم هو وحدة موقف عرب الداخل، أكان ذلك بالمشاركة أم بالمقاطعة التي ربما لم تنضج ظروفها بعد، وتحتاج إلى أن تكون جزءًا من مشروع نضالي أوسع وأشمل، قائم على فضح السياسة الصهيونية ومقاومتها ضمن مشروع وطني يشمل الشعب الفلسطيني كله.
وسوم: العدد 827