سفّانة بنت حاتم الطائي
امرأة كالنساء، ولكنها تعد في الرجال ، إذا برز الرجال للرجال !! فهي من أجود نساء العرب ، كما كان أبوها من أجود رجالهم . تعلمت مكارم الأخلاق منه . فلما اشتد ساعدها كادت تسبقه ! يعطيها حاتم القطعة من الإبل ما بين العشرة إلى الأربعين فتهبها للناس ! وينظر حاتم إلى ما ينفق ، وإلى ما تنفق ، ويرى أن المال إذا اجتمع عليه جوادان أهلكاه، ولم يبقيا منه شيئا . فيقول لها : إما أن أعطي وتمسكي ، وإما أن أمسك وتعطي ، فإن الأمر إذا استمر على ما هو عليه لم يبق شيء من مال .
فتقول له : والله لا أمسك أبدا ...
فيقول حاتم : وأنا – والله – لا أمسك أبدا ...
فتقول سفانة : فلا نتجاور .... فيقتسمان المال ، ويفترقان !! تلك سفانة ابنة حاتم الطائي ، وأخت عدي وارث مجد أبيه في الجود والكرم ، يبعث إليه الرجل يستعير منه قدور حاتم ، فيرسلها ملأى ! فيعجب ويقول : أردناها فارغة .
فيرد عدي : إنا لا نعيرها فارغة ..
سجية نشأ عليها في بيت حاتم ، تجعله يحس بأن كل ما حوله له حق عليه فكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق !!
أفمثل أهل هذا البيت ، وهم يتسابقون في مكارم الأخلاق ، يبقون بعيدين عن الإسلام ، وهو يدعو إلى مكارم الأخلاق ؟!!
ولكن عديا كان ملكا في قومه ، وهو على دين النصرانية ، فما له وللإسلام يدعو إليه قرشي من بني هاشم ؟؟
لقد أحس عدي بكره شديد منذ سمع بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يجد في نفسه ما يدفعه للإيمان به ، فهو في ملك ودين وشرف . وماذا يمكن أن يبلغ بالإسلام ، لو آمن به ؟ .
كان عدي – على كرهه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتوجس أن تدهمه سراياه ويحسب لذلك حسابا ، وقد احتاط لنفسه فأمر أحد رعاته أن يهيئ له جمالا سمانا ، تكون قريبة منه ، وأن ينذره إذا سمع بوصول جيوش لمحمد – صلى الله عليه وسلم – تلك البلاد ، وآذن الراعي سيده عديا، وقرب أجماله ، فاحتمل أهله وولده ميمما وجهه شطر أهل دينه من النصارى في الشام ، ولكنه خلف ابنة لحاتم ، أصبحت في جملة السبايا التي رجع بها المسلمون .
ووضعت سفانة مع غيرها في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا تحبس فيها . وسفانة امرأة تستلفت النظر جمالا وفصاحة وتسترعي الاهتمام أصلا وخلقا ... كانت تعرف ذلك في نفسها كما يعرفه الآخرون ، ويبدو بعضه للناظر إليها ...
ويمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بها ، فتقف له ، تكلمه بفصاحة لسان ، وشجاعة قلب : يا رسول الله ! هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن علي ّ منّ الله عليك .
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " ومن وافدك"؟
قالت : عدي بن حاتم .
قال – صلى الله عليه وسلم - : " الفار من الله ورسوله " !! .
وصمتت سفانة ، ومضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتركها ، ليتردد في جنبات نفسها : أجل ... الفار من الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - ، والمحتمل أهله هاربا ، والتارك ابنة حاتم – وها هي ذي .
ويمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في اليوم الثاني ، فتقوم له ، وتقو ل ما قالت بالأمس ، فيجيبها بمثل ما أجابها .
وفي اليوم الثالث أرادت لتقوم ، ولكنها تذكرت ما رد به عليها في اليومين الفائتين ، إلا أن علي بن أبي طالب أشار إليها من خلفه ، أن قومي فكلميه .
وقبل أن يتجاوزها رسول الله – صلى الله عليه و سلم – ارتفع صوتها : يا رسول الله ! هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن علي من الله عليك .
كانت سفانة إلى جانب الإحسان وجود اليد ، فصيحة اللسان إذا تكلمت أعجبت ، وإن استرسلت أدهشت !! وإن من البيان لسحرا .
" كان أبي سيد قومه ، يفك العاني ، ويحمي الذمار ، ويقري الضيف ، ويشبع الجائع ، ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام، و ما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا " .
أوليس الذي يتصف بتلك الخلال جديرا بأن يشفع في نفسه ، ويشفع للآخرين بسجاياه ؟.
وقد كان – فتلك – وايم الله – صفات المؤمنين الذين يحبون مكارم الأخلاق ، والله يحبها . ولجدير بحاتم لو كان مسلما أن تغمره الرحمة، ولكن لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
فخلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – سبيلها ، وقال لها : " لقد فعلت – فلا تعجلي حتى تجدي ثقة يبلغك بلادك ، ثم آذنيني".
ما أجمل أن يرحم العزيز وقد ذل ، والغني وقد افتقر ، والشريف يعرف له قدره ، وقد هان.
وما أجمل ما قالت سفانة ، وهي تدعو اعترافا بالصنيع ، وردا للجميل ، ووفاء للإحسان . فكان الدعاء أبلغ مما قالته في الرجاء :
أصاب الله ببرك مواقعه .
ولا جعل لك إلى لئيم حاجة.
ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه .
مر على سفانة وقت كانت تنتظر فيه من يحملها إلى أخيها ، وفي كل يوم تقضيه بين المسلمين كانت ترى في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خصالا تعجب بها ، وهي من هي في معرفة خلال الرجال ، وكرائم الفعال .
يأتيه الرجل فيطلب منه ، فلا يجد عنده شيئا ، ويكره أن يرجع خالي اليدين ، فينادي عليه أن اذهب إلى فلان فاستدن علي ، فيعجب من بحضرته !! أن لو كان عندك لما أمسكت فكيف ترسله ليستدين عليك؟! . ويقول آخر : أنفق – يا رسول الله – ولا تخشى من ذي العرش إقلالا ....
فيبتسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رضا بما قال. لقد وجدت سفانة جودا لا كالجود ، وكرما فاق كرم أبيها ! وأبوها من هو بين أجواد العرب .
أما –والله- إن ما يدعو إليه لهو الحق ، وهو الطلبة التي يبتغيها قاصدها .... ولئن بلغت أخاها لتقولن له ما تقول ، فليس من الحزم أن يحيد الرجل عن الحق إذا ظهر له ، ويتجنب الخير إذا وافقه ...
وقدم من تثق به ، ويبلغها أخاها ، فجاءت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وقالت : " يا رسول الله ! لقد قدم رهط من قومي ، لي فيهم ثقة وبلاغ ".
فأذن لها ، وقد كساها ، وأعطاها نفقة ، وحملها على ما يوصلها . فمضت إلى أخيها حتى قدمت الشام .
كان عدي يتحرق شوقا إلى أخبارها . وإنه لقاعد في أهله ينظر القادمين ، حتى طلعت ظعينة .
أتكون سفانة ؟! ولكن أين سفانة ؟ فهي في السبايا عند محمد منذ احتمل أهله ، وولى هاربا ...
وتهادى الركب حتى اقترب منه فإذا سفانة هي هي . خفق قلب عدي، وصبغ الحياء وجهه ، ولم يجد ما يقوله لها ، وقد تملكته فرحة اللقاء. ووقفت سفانة تلومه ، وقد ذكرت تركه لها من دون أهله ، ولم يجد عدي عذرا يعتذر به ، فرقت له ولانت . وجعل عدي يسألها ، ومضت سفانة تجيبه ، وهو لا يكاد يصدق ما يسمع !!.
- ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟؟.
- أرى – والله – أن تلحق به سريعا ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله . وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت .
قال عدي : هيه ، يا سفانة ..
قالت : رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة ، رأيت خصالا تعجبني ، رأيته يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ..
- وماذا ؟؟.
- وما رأيت أجود ولا أكرم منه !.
- لنعم ما رأيت –يا سفان – ولنعم ما تقولين . والله – إن هذا الرأي!!.
وخرج عدي حتى قدم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة فدخل عليه ، وهو في المسجد ، ومضى معه حتى بلغ منزله.
تستوقفه المرأة الكبيرة الضعيفة ، فيقف لها طويلا تكلمه في حاجتها ، ويزداد عدي يقينا أن ليس شأنه شأن ملك !! ويدخل إلى منزله ، فيدفع إليه وسادة من أدم محشوة ليفا ، ويجلس على الأرض !!
ويحك يابنة حاتم! أنت – والله بالرجال لبصيرة ..والله ما هو بملك، ولقد دخلت على الملوك قبل ! لم يبق إلا أن يكون نبيا ، وها هو ذا يعرفني ما أجهل ، ويكشف لي خبيئة نفسي ، وعما كان يمنعني من الدخول في الإسلام ... لعلك – ياعدي – إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم ؟!
فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ...
ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى من كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ؟!
ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم ؟! ....
كان عدي يعلم أن أتباع الأنبياء هم الفقراء والضعفاء ، وأن ذوي السلطان ، ومن بيدهم القوة لا ترضيهم دعوة الرسل ...، وأن المستضعفين من المؤمنين تخطفوا ، وقتلوا تقتيلا .. وكذلك فعل بأتباع ابن مريم ، وبمن آمن من قبل ...
هزت كلمات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلب عدي هزا... فكيف تفر – يا عدي – و إلى أين ؟!.
أفرَّك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل من إله إلا الله ؟.
أفرَّك أن يقال : الله أكبر .... فهل من شيء هو أكبر من الله عز وجل ؟.
وصمت عدي ، ثم نطق بالشهادتين ؛ فتهلل وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- .
وفي تلك اللحظات التي تحول فيها عدي من الكفر إلى الإيمان لاح طيف سفانة أمام عينيه ، وكأنه يبصرها !وخفق قلبه لها ، حتى كأنه ليكلمها : ويحك يابنة حاتم ! ما أعلمك بالرجال ! إن أسرَكِ فكَّ أسري ، ولعمري لأنتِ أفضل بني حاتم ...
ليت حاتما كان حيا ليرى أي تاج ألبس عدي ، وهو بين يدي محمد – صلى الله عليه وسلم- ؟!.
وسوم: العدد 829