وقفة مع مقدمة غزلية للشاعر الجاهلي الشنفرى الأزدي وصف فيها نموذج المرأة التي جمعت بين جمال الخلق والخلق

في زمننا هذا وهو زمان الإجهاز على أنوثة المرأة يجدر بنا أن نعود إلى تراثنا الشعري النفيس نلتمس فيه ما كانت عليه الأنوثة العربية  من جمال الخلق والخلق  قبل ابتذالها وإغرائها بتقليد المرأة الغربية  التقليد الأعمى الذي أفقدها أصالتها  حيث ناب التشبه عن الطبع ، وناب تكلف الجمال باستعمال الأصباغ وبالحلق والتنميص عن الجمال الأصيل ، وناب عن حسن الخلق سيئه . ومما أراه جديرا بالذكر والتذكير مقدمة غزلية للشاعر الجاهلي الشنفرى الأزدي  يقول فيها :

فَيا جارَتي وَأَنتِ غَيرُ مُليمَةٍ

إِذ ذُكِرت وَلا بِذاتِ تَقَلَّتِ

لَقَد أَعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها

إِذا ما مَشَت وَلا بِذاتِ تَلَفُّتِ

تَبيتُ بُعَيدَ النَومِ تُهدي غَبوقَها

لِجارَتِها إِذا الهَدِيَّةُ قَلَّتِ

تَحُلُّ بِمَنجاةٍ مِنَ اللَومِ بَيتَها

إِذا ما بُيوتٌ بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ

كَأَنَّ لَها في الأَرضِ نِسياً تَقُصُّهُ

عَلى أَمَّها وَإِن تُكَلَّمكَ تَبلَتِ

أُمَيمَةُ لا يُخزى نَثاها حَليلَها

إِذا ذُكَرِ النِسوانُ عَفَّت وَجَلَّتِ

إِذا هُوَ أَمسى آبَ قُرَّةَ عَينِهِ

مَآبَ السَعيدِ لَم يَسَل أَينَ ظَلَّتِ

فَدَقَّت وَجَلَّت وَاِسبَكَرَّت وَأُكمِلَت

فَلَو جُنَّ إِنسانٌ مِنَ الحُسنِ جُنَّتِ

في هذه الأبيات يثني الشاعر على موصوفته المنزهة عن اللوم حين تذكر، لأنها  ذات تحبّب  لا ذات تبغّض ، وقلما تنجو أنثى من لوم لما في طباع النساء مما يستوجب اللوم  عادة . ويعبر الشاعر عن إعجابه بحياء من يصف خصالها، ذلك أن قناعها لا يسقط عن محياها ، ولا تتلفت حين تمشي ، علما أن في إسقاط القناع والتلفت ريبة  يحسن بالمرأة أن تنأى بنفسها عنها صيانة لعرضها من أن تنال منه قالة السوء ، وقلما تتصف المرأة بهذا الوصف لأن الغالب على النساء تبرجهن بالزينة حرصا على إبدائها ،وحرصا على إثارة الانتباه وشد العيون إليهن ، و عادة عيون الرجال أن تنوش الأجساد الأنثوية ، وقد يفتح ما يريب من النساء الباب على مصراعيه لسوء الظن  بهن بل والطمع فيهن.  

ومما أثنى به الشاعر على موصوفته  أيضا الجود والكرم ، وعادة النساء غالبا البخل ،وهو طبع فيهن يبررنه عادة  بالاقتصاد وبحسن التدبير . وكرم موصوفة الشاعر يكون حين تقل الهدية بسبب مجاعة أو قحط أو قلة مئونة  أو نفاد زاد ، ويكون في وقت تعز فيه الهدية ، وليست من تهدي الغبوق كمن تهدي الصبوح ذلك أن النفس يسهل عليها أن تجود بصبوح  ودونه نهار فيه سعي ومعاش يستدرك فيه ما أنفق  أوما قل أو ما نفد من زاد ، ويصعب عليها أن تجود بغبوق ودونه ليل فيه سبات ولا سبيل فيه لاستدراك . وعادة ما تتذرع  المرأة  بذريعة لتصد جارتها عن حاجة تطلبها خصوصا إذا قلت لديها المئونة ، وقلما يغلب الإيثار الأثرة عند أنثى .

ومما امتدح به الشاعر موصوفته أن سمعة بيتها بمنآى عن اللوم حين تذم البيوت ويقدح فيها ، وشر النساء من تجلب اللوم لبيتها بسبب سوء خلقها أو سوء تصرفها.

ومما أثار إعجاب الشاعر بموصوفته أيضا غض بصرها حيث تمشي، فيخيل لما يراها كأنها تبحث  في الأرض عن شيء  ثمين ضاع منها ،وهي حريصة على العثور عليه والتقاطه . وغض الأنثى بصرها يكون بسبب شدة حيائها ، ومن قلة حياء الأنثى ألا تغض بصرها فتتقاسم النظرات مع من يصادفها ، فتجعله  يحاول فك ما تشي به نظراتها، وهو مما يريب ويطمع  فيها أيضا . ومما امتدح به الشاعر موصوفته أيضا أنها لا تطيل الكلام ، ومعلوم أن طول كلام الأنثى يريب ويطمع أيضا كما هو الشأن بالنسبة لطول النظر .

ويكشف الشاعر عن اسم موصوفته وهو أميمة ، ويقال أن من الخطإ القول بأنه تصغير أم ،والصواب عند اللغويين أن تصغير أم هو أميهة وليس أميمة . والتصغير هنا للتمليح وإن كان اسم أميمة يطلق  في اللسان العربي على حجارة تشدخ بها الرؤوس . وهذا المعنى لا ينقص شيئا من حسن موصوفة الشاعر، فمن كانت مثلها حق لها أن تكون حجرا يشدخ رؤوس الطامعين  فيها ، وغالبا ما  يظهر الطامعون  مقتا  متصنعا أو كاذبا للأنثى المنيعة ، وهم في الحقيقة  يتحرقون شوقا إليها ، ويقدرون منعتها ، وكأنها حين تصد طمعهم إنما  هي أميمة تشدخ رؤوسهم .

ومما أكد به الشاعر منعة موصوفته أن حليلها لا يخزى إذا نثت الأخبار أي حدثت بها  ، وإذا ذكرت النساء بما يسوء كانت  هي منزهة عما يطعن فيها  شرفا وعرضا . ويردف ذلك بالحديث عن قرارها في بيتها وملازمته حتى أن حليلها إذا عاد في المساء إلى بيته وجدها حيث تركها ولم يسأل من تقرعينه بها لثقته فيها  أين ظلت ؟  و قيل هذا أحسن ما قيل في عفة النساء .  ومن مثالب النسوان  عادة كثرة الخروج من بيوتهن ، وهي أسوأ عادة ،وهي مما يثير الريبة في  نفوس حلائلهن ، ويقدح نار الغيرة فيها . وقد تكثر بعضهن الخروج لاختبار غيرة الحلائل أو للتعبير عن رغبتهن عنهم إذا ما كن يضمرن خيانة وغدرا .

وبعد الإسهاب في سرد خصال موصوفته الحميدة يصف جمال خلقتها فهي حسناء بدقة جسدها واسبكرارها أي طول قامتها ، وما  ضمرت الأنثى وطالت إلا حسنت  ومدحت ، وما سمنت وقصرت إلا وقبحت وذمت . ومن فرط جمال موصوفة الشاعر أنها لو جن إنسان من فرط الجمال لجنّت ، ومما يبالغ به في وصف شدة حسن الأنثى في الثقافة العربية أن حسنها كحسن الجّن ، والله أعلم بحسن الجن ، وأظن أن الشاعر أراد القول بأن حسنها يطير بالعقول ، وكم عاقل طار عقله من فرط حسن مليحة ،وكان الله في عونه ، وليس من طار عقله من فرط حسن كما فقد عقله بسبب حليلة لا جميلة خلقتها ولا حسن خلقها .وما أقبح أن يجتمع القبح في الخلقة والخلق .

وأخيرا نقول أين المرأة في زماننا هذا الذي فسد وأفسد علينا نساءنا  وحياتنا من موصوفة  الشاعرالشنفرى الأزدي  في زمن البداوة الموسومة بخشونة  الطباع؟ أليس زماننا الموسوم برقة الطباع قد تخلّف  تخلفا فظيعا عن زمن البداوة  الذي كانت تسوده القيم الراقية ، والذوق الجميل ؟    

وسوم: العدد 831