الحُرمَة .. والحَريم .. والجَهلُ الحَرام !
ما كاد المحاضر ينهي إحدى العبارات ، في محاضرته ، حتى هبّت إحدى النساء ، واقفة في منتصف القاعة ، وهي تصرخ :
حرام عليك أيها المحاضر .. حرام عليك يا رجل ..! إنك تهين النساء .. إنك تهيننا .. إنك تهينني أنا شخصياً ! ولا أسمح لك بهذا التطاول ، وبهذا العبث بكرامتي ، وكرامات بنات جنسي ، من النساء!
نظر إليها المحاضر مستغرباً ، وتلفّت جمهور الحاضرين في القاعة ، ليروا المرأة المتحدّثة ، التي قاطعت المحاضرة ، بهذا الشكل الصارخ المفاجىء!
كانت المرأة في العقد الخامس من عمرها ، سافرة متبرّجة ، وضعت على وجهها كمّية ضخمة من الأصباغ ، لتغطّي التجاعيد ، التي ملأت ملامح وجهها كله ، ووضعت على رأسها قبعة ، من الشعر المستعار ، لتخفي شعرها الحقيقي ، الذي لا يعرف الناس عنه شيئاً!
سألها المحاضر ، مبتسماً ، بهدوء:
وكيف أهنتك ، أيتها السيّدة ؟
قالت المرأة :
ألم تقل ، في عبارتك ، التي نطقتها ، أخيراً ، قبل أن أقاطعك:
"إن المرأة حُرمة ، ينبغي أن تصان ، وأن تـُحفظ من عبث العابثين ، ومن أحابيل المغرضين والمفسدين"!؟
قال المحاضر، ببساطة :
بلى ، قلت هذا الكلام ، لكن باختلاف بسيط ، هو أنني قلت :
" إن للمرأة حُرمة ،ً ينبغي أن تصان " ، ولم اقل : "إن المرأة ، نفسها، حُرمة " ! والفرق واضح من حيث اللغة .. وإن كنت مقتنعاً، بأن المرأة ، ذاتها ، حُرمة ، يجب ألآ تُمسّ بأذىً أو سوء !
قالت المرأة متحدّية :
أرأيت !؟ إنها قناعتك التي لاتخفيها ، برغم تلاعبك بالألفاظ !
قال المحاضر بهدوء : صحيح .. إنها قناعتي .. أنا مقتنع بأن المرأة حرمة ، لكن ما علاقتك ، أنت ، بالأمر؟
قالت المرأة محتدّة :
وتسألني عن علاقتي بالأمر، أيضاً ؟ غريب ! ألا تراني امرأة ، أمامك !؟
قال المحاضر : ببساطة :
أمّا كونك امرأة ، أم لا ، فهذا أمر أنت تقدريّنه ، وهو شأن يخصّك ، ولا علاقة لي به ، وليس لديّ وقت ، للبحث في حقيقته!
وأمّا كونك تأنفين ، من كونك "حُرمة"، وتأبين أن تكون لك حرمة ، فأنا أطمئنك ؛ بأنّ كلامي ، هنا ، لا يعنيك ، من قريب أو بعيد .. إنّه خاصّ ، بالمرأة التي تُسرّ، أو ترضى، بأن تكون حرمة ، أيْ : أن تكون لها حرمة.. أمّا المرأة التي تأبى هذا وذاك ، فليست معنيّة بالموضوع ، أصلاً!
قالت المرأة ، بلهجة استفزازيّة :
حسناً .. كان عليك أيها المحترم ، أن تصوغ كلماتك بدقـّة ، احتراماً للمنهج العلمي ، وتعلن بداية: أن كلامك عن " الحريم " و" الحُرمات " خاصّ ، بطراز معيّن من النساء ، لا بالنساء جميعاً ، كيلا تهين المرأة ، التي ناضلتْ طويلاً ، ومازالت تناضل ، ليلَ نهار، لنيل حقوقها ، والتخلّص من تقاليد الماضي، ورواسبه البالية!
قال المحاضر بهدوء ، وهو يبتسم :
اعترف لك ، بأنني أخطأت ، وأعلن اعتذاري ، أمام السادة الحاضرين ، وأُشهدهم ، جميعاً ، بأنني لم أقصد ، في كلامي ، عن " الحريم و الحرمات " هذه المرأة ، ولا أيّاً من النساء اللواتي على شاكلتها ، اللائي "يناضلن لنيل حقوقهن ، والتخلّص من تقاليد الماضي ، ورواسبه البالية" وأنني إنّما أتحدّث، في محاضرتي هذه ، عن أمّي وزوجي، وبناتي وأخواتي ، وعمّاتي وخالاتي، وقريباتي جميعاً ، اللواتي ، إن تعرّض لهنّ سفيه بأذىً ً، أو مسهّن ساقط ، بسوء ، غلى الدم في عروقي ، ولقّنته درساً بليغاً ، في الأدب ، وفي كيفية احترام الآخرين ، واحترام كراماتهم وأعراضهم.. ويدخل في دائرة محارمي، سائر محارم المسلمين ، بل سائر النساء ، اللواتي يحرصن ، ويحرص أهلوهنّ، على أن تكون لهنّ حرمة ، تصان من الأذى والسوء ، وعلى أن يظلّ شرفهنّ، محاطاً بسور منيع، لا تخترقه سهام العابثين، ولا نزوات الفاسدين والمنحرفين.. فهل أرضاك هذا الاعتذار، أيّتها السيّدة ؟
قالت المرأة ، وقد أصابتها الحيرة ، وارتبك تفكيرها:
ولكنك خلطت كلمات كثيرة ، لاعلاقة بينها، مثل: الكرامة ، العرض، الشرف، الحرمة!
قال المحاضر، بهدوء :
هل ترين ، حقاً ، أن هذه الكلمات ، لا علاقة فيما بينها ، ولا رابط يربط بعضَها ببعض!؟
قالت المرأة ، مرتبكة :
الحقيقة أنني لا أدري ، بالضبط .. كلّ ما أعرفه ، أن كلمات من مثل :
"حُرمة .. حَريم.." ثقيلة ، على مسمعي ومزاجي ، وأنفر منها ، نفوراً شديداً !
أمّا الكلمات الأخرى ، مثل : " كرامة .. شرف .. عرض.." فأنا أحرص عليها ، حرصاً شديداً، وأعتز ّبها ، اعتزازاً كبيراً جدّاً!
قال المحاضر، بهدوء وثقة :
حسناً ، أيتها السيّدة .. أنا أعذرك ، إذا كنت تجهلين معنى كلمات مثل " حرمة.. حريم " التي تنفرين منها ، وتجهلين العلاقة ، بينها وبين الكلمات الأخرى ، التي تعتزين بها ، وتحرصين عليها ..
فاسمعي ، إذن ، هذه الكلمات ، لعلـّها تفيدك ، أو تزيل ، من ذهنك وقلبك ، ما علق بهما، من إيحاءات سلبيّة ، لكلمة " حرمة .. حريم .." وما دار في فلكهما ..!
يقال : حَرُم الشيء حُرْمةً: امتنع .
وأحرَم َالرجلُ بفـُلان : نزل في حَرَمِه ، احتماءً به .
وتحَّرم منه بحُرمة : تحمّى وتمنـّع .
وتحرّم فُلان بفلان : عاشَره ومالحَه ، وتأكّـدت الحـُرمة بينهما .
وحَرمُ الرجل : ما يقاتل عنه ويحميه .
والحُرمة: مالا يحلّ انتهاكُه ، من ذمّة أو حقّ أو صحبة ، أو نحو ذلك .. والمرأة ُ، وحَرَم الرجل ، وأهلـُه ، والمَهابة !
الحريم : ما حُرِّم ، فلا يُـنتهك .
المحَّرم : ذو الحُرمة .
المحرَمة والمحرُمة : ما يَحرم انتهاكه ، من عهد ، أو ميثاق ، أو نحوهما... وزوجة الرجل وعياله ، وما يحميه . جمعُها : مَحارم .
فهل الكلمات الأُخرى ، مثل " الشرف .. العرض .. الكرامة " بعيدة عن كلمات " الحرمة .. والحريم " ولا علاقة لها بها ، أم هي مرتبطة بها ، ارتباطا شديداً ؛لأن الشرف الذي لا حُرمة له ، لا يحميه أحد ، حتى صاحبُه ، أو صاحبتُه ! وكذلك العرض ، والكرامة ، والسمعة.. وما شابهها..!؟ أجيبي أيتها السيّدة ، إذا كانت قد اتضّحت لك حقيقةُ الأمر!
قالت المرأة ، بلهجة فيها انكسار، وقد فارقتها نبرة التحدّي:
أنا آسفة .. فقد كان ذهني محشواًّ ، منذ الصغر ، بإيحاءات سلبيّة منفّرة ، لكلمة "حَرُمَ " وكل ما يدور في فلكها.. والمرء عدوّ ما يَجهل! فأنا أكرّر أسفي واعتذاري ، للسيّد المحاضر ، وللسادة الحاضرين جميعاً.
قال المحاضر :
واستطراداً على هذه المصطلحات " الحُرمة .. الحريم .. المحرَمة .. المحرَّم .." دعيني أسألك سؤالاً يخصّك ، أنت ، شخصياً : هل تعتقدين ، وأنت مثقّفة ، ذات موقف فكري واجتماعي ، تعتزّين به ، وتدافعين عنه.. هل تعتقدين أن جهلك ، بمعاني الكلمات المتعلّقة ، بموقفك هذا ، هو نوع من الجهل المباح ، أم المندوب ، أم المكروه ، أم الواجب ، أم الحَرام ! واعذريني ، على هذا التفصيل ، الذي أراه ضرورياً، برغم ما فيه ، من غرابة أو.. طرافة !
قالت المرأة ، بعد صمت قصير:
بل إني أعتقد ، أنه نوع من الجهل الحرام ، لمن كانت تملك موقفاً كموقفي ، وتهتمّ بحقوق المرأة وقضاياها ، مثل اهتمامي..! وإن كان بالنسبة للنساء العاديات ، أمراً غير ذي أهميّة، من وجهة نظري ؛ فهنّ لا يَشغلن أنفسهن ، أصلاً ، بمثل هذه الأمور..!
قال رجل ٌمسنّ:
صدّعتِ رؤوسنا .. اقعدي ، ودعينا نسمع باقي المحاضرة.. يا حرمة!
ضحكت المرأة والمحاضر والجمهور.. وتابع المحاضر محاضرته ، بثقة وهدوء.
وسوم: العدد 831