الإسلام والحريات السياسية
في العقود السبعة الماضية نالت الأقطار العربية استقلالها الوطني بعد كفاح مرير ومقارعة بطولية ضد سلطات الانتداب والحماية والاستعمار، استمر بعضها ربع قرن، وبعضها أكثر من قرن كما حدث للجزائر وعدن وإمارات الخليج.
وكان الشعب ينتظر على أحر من الجمر قيام وحدة سياسية تضم أقطار العرب وتجمع شتاتهم، وتنهي حالة التجزئة والتمزق. لكن الاستعمار الذي خرج من الوطن العربي كارهاً، ظل حانقاً مغيظاً يتربص بنا الدوائر ويحيك المؤامرات وينتهز الفرص، كي يستعيد نفوذه في بلادنا مرة أخرى بأساليب شتى، وكان من أخطر هذه الأساليب تمزيق الوحدة الوطنية بإحياء النعرات وبث الفرقة وتغذية الروح الطائفية البغيضة، وأخيراً – وليس آخراً- تطويق جماهير الأمة وإلغاء دورها والتضييق عليها وقهرها بحكومات ظالمة وحكام مستبدين.
إن أكبر كارثة حلت بأمتنا في العصر الحديث هي غياب شمس الحرية، ومصادرة الإرادة الشعبية، وإلغاء الحريات السياسية، لأن جميع المؤامرات التي حيكت والجرائم التي ارتكبت والخيانات التي اقترفتها الأيدي الأثيمة ضد الوطن حدثت في غياب الحريات السياسية، وعلى العكس من ذلك فإن الإنجازات الكبيرة التي حققها العرب في عصرهم الحديث كانت ثمرة للحرية التي تمتع بها شعبنا، وأتيحت لجماهيره العريضة.
فالوحدة بين مصر وسورية قامت عندما كان شعبنا قادراً على التعبير عن آماله الكبيرة وطموحاته العظيمة ومبادئه الراسخة، ثم إذا بهذه الوحدة التي انتظرها الشعب طويلاً لتكون نواة الوحدة الكبرى تتحطم وتزول في التآمر الخارجي من جهة وضعف التنظيم السياسي من جهة أخرى.
إن مصادرة الحرية السياسية جريمة عظمى وأثم كبير تحت أي ذريعة كانت، ومهما حاول المستبدون وحكومات البغي والعدوان أن تبرر حالة القهر التي تفرضها على جماهير الشعب فإن منطقها سيظل مرفوضاً وممارستها ستبقى مدانة.
فالأحداث السياسية التي شهدتها دول العالم الثالث، ولاسيما في المنطقة العربية أثبتت أن الشعب بكل شرائحه وفئاته ستلحق به أضرار فادحة من جراء الاستبداد السياسي وبحرمانه من ممارسة حقه في التفكير والتعبير والحرية، وأن أكثر الناس تضرراً من الأنظمة الدكتاتورية هم العمال والفقراء والكادحون.
ثمة عدد من "المتفيقهين" يبشرون بسلطات مطلقة تعطى للحاكم بدعاوى مزيفة ينسبونها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً، حتى وصلت الجرأة ببعضهم أن يلغوا دور الأمة كلها في المشاركة السياسية زاعمين أن لها الحق في إبداء الرأي فقط والقرار كله بيد السلطان الحاكم.
الإسلام الذي ينسبون إليه هذا الحكم، أو يستندون إليه في هذه المزاعم إنما جاء لتحرير الإنسان من أي لون من ألوان الطاغوت، حررهم من الخرافة والأسطورة والسحر والشعوذة والاستعباد والطغيان والكهانة، ومن كل أشكال الاستبداد السياسي.
لقد كان التوحيد إيذاناً بالتحرير المطلق للإنسان، عندما بدا شعاره الأعظم ب :لا إله إلا الله ، كيلا تبقى وصاية على الإنسان لبشر أو شجر أو مدر، فالخالق هو السيد المطلق في الكون، والخلق كلهم عيال الله، وهم أمامه أحرار متساوون، وكذلك فيما بينهم متحدون متضامنون، حتى يمكنك أن تضع للإسلام عنواناً كبيراً مؤلفاً من لفظتين – التوحيد والوحدة - فالدعوة التي قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بتبليغها إلى الناس تنطوي على كل معاني التحرر والانعتاق :
تحرر إنساني جعل الناس في المساواة كأسنان المشط.
وتحرر اقتصادي ألغي فيه الربا والغش والاحتكار والاستغلال واستثمار الإنسان لأخيه الإنسان.
وتحرر اجتماعي أدى إلى إلغاء الامتيازات العرقية والطبقية والقبلية والمالية وغيرها.
وتحرر فكري حطم فيه أغلال التبعية والتقليد والطاعة العمياء. وقد غرس الرسول (صلى الله عليه وسلم) تعاليمه الخالدة في أعماق النفس البشرية ليصير العبيد بها سادة وليقول الواحد من الأصحاب على رؤوس الأشهاد: لا سمع ولا طاعة حتى يفهم كل أمر من أمور الحكم مهما كان يسيراً، ولتناقش المرأة أمير المؤمنين في حقوق النساء، فيجيب على مسمع جمهرة من المواطنين: أصابت امرأة وأخطأ أمير المؤمنين.
لقد رفع القضاء في ظل هذه المبادئ العظيمة ميزان العدل ليجرد الناس أمام العدالة المطلقة من أي اعتبار، فيقف أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ويهودي من رعايا الدولة فيصدر الحكم لليهودي بشأن درع فقده علي رضي الله عنه مما أذهل اليهودي فرد الدرع وشهد شهادة الحق، فكان هذا كله امتداداً لمعاني الرسالة التي تجسدت سلوكاً وتطبيقاً في شخص صاحبها عندما كان يقول: من مسه أذى مني في ظهره فهذا ظهري للقود (القصاص) خشية أن يكون مس جندياً في الجيش وهو يقوم على رص الصفوف بعصا كانت بيمينه.
الآيات البينات تنص بأوضح بيان وأصرحه: لست عليهم بمسيطر، لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، وفي خطبة الوداع التي لخص بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مبادئ الرسالة طوال ساعات النهار في أكبر تجمع جماهيري شهده الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حياته: أكد المساواة التامة بين الناس بقوله: لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وأعلن عن إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان: ألا وإن ربا الجاهلية موضوع (ملغى). وعندما تم للنبي فتح مكة بعد جهاد دام أكثر من عشرين عاماً قال لمن آمن ولمن لم يؤمن: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فآمن الناس عن اقتناع وطواعية.
لقد علم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه ومن آمن برسالته معاني الحرية والأكثرية والانتخاب وأسس الحياة السياسية، فأخذ برأي المخالفين لرأيه في الأمور التي هي من مسؤولية الفرد في الدولة والمجتمع، كما حدث في معارك بدر وأحد والخندق. وقال لصاحبيه: أبي بكر وعمر: إذا اجتمعتما على أمر ما خالفتكما، لأن الصوتين أكثر من الصوت الواحد تعليماً للمؤمنين وتأصيلاً لحرية الرأي والشورى واتخاذ القرار ومبدأ الأكثرية.
وعندما حضر إليه وفد الأوس والخزرج في بيعة العقبة بمكة، وكانوا ثلاثة وسبعين وفيهم امرأتان قال لهم: اختاروا من بينكم اثني عشر نقيباً، فباشروا انتخاب قيادة منهم تمثلهم وتتحدث باسمهم.
كانت سيرة الخلفاء الراشدين امتداداً لهذه التعاليم وتطبيقاً لهذه السياسة، فما تزال تدوي في سمع الزمان مقالة عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. والتاريخ قد حفظ لنا ذكرى اللقاءات الواسعة التي كان يدعو إليها أمير المؤمنين في المسجد ليبحث مع الرعية شؤون السلم والحرب والأحوال العامة وسياسة الحكم ومباشرة المحاسبة أو ما نطلق عليه اليوم الانتقاد الذاتي أمام الجميع بأساليب وصيغ نجدنا الآن في أشد الحاجة إلى تطبيقها والأخذ بها والارتقاء إليها.
الذي حملني على هذا الإطناب في موقف الإسلام من الشورى والحرية والأكثرية والانتخاب والمشاركة وتعددية الرأي وتوعية الجمهور وعدم تميز الحاكم على أي فرد من أفراد الشعب في أي مجال من مجالات السياسة والاقتصاد والقضاء والحياة الاجتماعية، أقول ما دعاني إلى ذلك هو تبرئة الإسلام مما ينسب إليه زوراً، وكف أيدي المغالين والمتنطعين الذين يفتشون عن سند في الإسلام لآرائهم في التسلط والاستبداد ومصادرة الحريات الخاصة والعامة لهؤلاء نقول: ارفعوا أيديكم عن الإسلام الذي نزل لإسعاد الخلق وجعل الإنسان سيداً في هذا الكون، فقد سخر الله له ما في السموات والأرض، وخلق له أنعماً كثيرة، أعظمها وأهمها هذا العقل الذي يستطيع الإنسان أن يبلغ به في مضمار الرقي مستوى يجعله بجدارة وحق خليفة الله في الكون فيكون بهدي الله ونعمة العقل سيداً في الحال وسعيداً في المآل.
وليس عبثاً ولا مصادفة أن يعلن مجدد القرن الإمام حسن البنا، رحمه الله ورضي عنه، في أحد شعاراته الثلاثة: الحرية مع القوة بجانب الحق، وأن يؤكد عليها في وصاياه وفي كلماته ومذكراته..
إن الحرية هي مناط التكليف في الاعتقاد والعبادة والجهاد وسائر الواجبات المفروضة في شرع الله القويم، وإن من أعظم المثوبات عند الله تعالى، أن تعيد الحرية لإنسان سلبت منه، ورحم الله عمر بن عبد العزيز الذي تلقى من واليه على شمال أفريقيا كتاباً يقول فيه (لقد أغنى الإسلام الناس، ولم نعد نجد الفقير المحتاج، فماذا نفعل بأموال الزكاة؟) فأجابه الخليفة الراشد: (حرر العبيد، وأعتق الأرقاء) ليستعيد كل فرد في ظل الإسلام آدميته وحريته.
وأختم بالذي به بدأت:
إن أكبر كارثة حلت في أمتنا خلال الحقبة الأخيرة من تاريخها، غياب شمس الحرية، وإن بدء النهوض لأمتنا من كبوتها، واستئنافها مسيرتها الحضارية والإنسانية كصاحبة رسالة سماوية منقذة، إنما يكمن في استعادتها لحرياتها، وكسرها للقيود والأغلال التي ترسف فيها، وتكبل أفرادها، وعندئذ فقط يتجدد عصر الإبداع والانطلاق وبناء الحضارة التي يحلم بها الإنسان أي إنسان.
وسوم: العدد 831