وصية الشاعر عبدة بن الطيب لبنيه حين كبر وقرب أجله وفيها حكم وعبر
الشاعر عبدة بن الطيب شاعر جاهلي أدرك الإسلام فأسلم ، ولما أسنّ ورابه بصره جمع بنيه يوصيهم فقال :
أبنيّ إني قد كبرت ورابني = بصري وفيّ لمصلح مستمتع
فلئن هلكت لقد بنيت مساعيا = تبقى لكم منها مآثر أربع
ذكر إذا ذكر الكرام يزينكم = ووراثة الحسب المقدّم تنفع
ومقام أيام لهن فضيلة = عند الحفيظة والمجامع تجمع
ولهى من الكسب الذي يغنيكم= يوما إذا احتصرالنفوس المطمع
ونصيحة في الصدر صادرة لكم = ما دمت أبصر في الرجال وأسمع
أوصيكم بتقى الإله فإنه = يعطي الرغائب من يشاء ويمنع
وببرّ والدكم وطاعة أمره = إن الأبرّ من البنين الأطوع
إن الكبير إذا عصاه أهله = ضاقت يداه بأمره ما يصنع
ودعوا الضغينة لا تكن من شأنكم= إن الضغائن للقرابة توضع
واعصوا الذي يزجي النمائم بينكم= متنصحّا ذاك السّمام المنقع
يزجي عقاربه ليبعث بينكم = حربا كما بعث العروق الأخدع
حرّان لا يشفي غليل فؤاده = عسل بماء في الإناء مشعشع
لا تأمنوا قوما يشبّ صبيهم = بين القوابل بالعداوة ينشع
فضلت عداوتهم على أحلامهم = وأبت ضباب صدورهم لا تنزع
قوم إذا دمس الظلام عليهم = حدجوا قنافذ بالنميمة تمزع
أمثال زيد حين أفسد رهطه = حتى تشتّت أمرهم فتصدعوا
إن الذين ترونهم إخوانكم = يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وثنية من أمر قوم عزّة = فرجت يداي فكان فيها المطلع
ومقام خصم قائم ظلفاته = من زلّ طار له ثناء أشنع
أصدرتهم فيه أقوّم درأهم = غض الثّقاف وهم ظماء جوّع
فرجعتهم شتّى كأن عميدهم = في المهد يمرث ودعتيه مرضع
ولقد علمت أني قصري حفرة = غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي = والأقربون إلي ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها = تسفي علي الريح حين أودّع
فإذا مضيت إلى سبيلي فابعثوا = رجلا له قلب حديد أصمع
إن الحوادث يخترمن وإنما = عمر الفتى في أهله مستودع
يسعى ويجمع جاهدا مستهترا = جدّا وليس بآكل ما يجمع
حتى إذا واقى الحمام لوقته = ولكل جنب لا محالة مصرع
نبذوا إليه بالسّلام فلم يجب = أحدا وصمّ عن الدعاء الأسمع
يبدأ الشاعر مخاطبا بنيه بذكر مناسبة وصيته ،وهي بلوغه من الكبر عتيا حتى تيقن الريبة من بصره كناية عن هرمه وضعفه وقرب أجله و في سن كسنه تكتمل الخبرة بالحياة ، وستمتع بها كل مستنصح .
وذكر أنه إذا هلك، فإنه قد ترك لهم مكارم أربع هي: شرف يزينهم ، وحسب يرفعهم بين الناس ، وسمعة يشرفون بها ، وعطايا تغنيهم ، ونصيحة ادخرها لهم ما دام حيّا .
وشرع في نصحهم، وأول ما أوصاهم به بتقوى الله عز وجل المعطي والمانع ، ثم أوصاهم ببرّوالدهم وطاعة أمره ،لأن أبرّ الأبناء بوالده أكثرهم طاعة له . وذكر أنه لا فائدة تستفاد من كبير ذي رأي وخبرة إذا ما عصاه أهله ، ولم ينتصحوا بنصحه.
ونصحهم بعد ذلك بتنكب الأحقاد فيما بينهم، لأنها سريعة التفشي بين الأقارب . وحذرهم ممن يمشي بينهم بالنميمة وهو يتظاهر لهم بالنصح وشبّهه بالسم الناقع ، كما شبهه بمن يسوق بينهم عقاربه ليشعل حربا بينهم وشأنها كشأن عروق الجسد مع الأخدع ،وهو عرق في العنق حين يقطع تستجيب له باقي العروق. ويشبه حقد النمّام بينهم بالظمآن الذي لا تروى له غلة إلا إذا بلغ هدفه من النميمة.
وحذرهم بعد ذلك من قوم يشبّ فيهم الصبيّ على العداوة حين تستقبله القابلة ساعة يولد ، وهو يعني أنهم قوم يربون صغارهم على العداوة ، وهؤلاء تغلب عداوتهم حلمهم ، ولا تزول الأحقاد من قلوبهم أبدا .وشبه هؤلاء القوم وهم يمشون بالنميمة بين غيرهم بالقنافذ التي لا تنام ليلا ولا ينقطع سيرها فيه . وذكر من هؤلاء شخص يقال له زيد وكان قد أفسد قومه ، وتسبب في شتات أمرهم وتصدّعهم وذهاب ريحهم . وحذرهم بعد ذلك من الانخداع بمن يظهرون لهم أخوة وهم يبطنون عداوة وهؤلاء لا يشفي غليل صدورهم سوى معاينة مصرع وهلاك من يخدعونهم بأخوة كاذبة ..
وأشاد بعد ذلك ببعض خصاله ،ذلك أنه كان إذا عرض لقوم أمر صعب لا مخرج لهم منه وجد لهم مخرجا بفضل حنكته وحذقه وسداد رأيه ، وأنه كان يقوم اعوجاجهم ،ولا يغادرهم حتى يطيعوا أمره ،ويعملوا بما أشار عليهم مما فيه خيرهم. ويذكر أنه من أخطأ السداد ساء ذكره بين الناس وشنعت زلته . ونظرا لوجاهة رأيه وحكمته فإن سيد القوم الذين ينصحهم يبدو أمامه كصبي يمتص الودعة المعلقة على عنقه ، وكانت تعلق للصبية دفعا للعين ، وهو تشبيه أراد به التعبيرعن فشل السادة في بلوغ شأوه في مجال سداد الرأي والحكمة والنصح.
وانتقل بعد ذلك للحديث عن المصير الذي ينتظره وقد هرم ونال منه الضعف وجاء أجله حيث يوضع حفرة وقد نقل إليها على آلة الحدباء . واستحضر حينئذ بكاء ونحيب بناته وزوجه ، وأقربائه وقد فجعوا بموت عميدهم وحكيمهم . ويصف حاله بعد هلاكه وقد ودّع ،وترك وحيدا في حفرته الغبراء التي يكره المقام بها والريح تثير فوقه الغبار. وينصحهم بعد هلاكه باختيار من يقوم مقامه ويكون عميدا مثله يسد فيهم مسده سداد رأي وحكمة ونصح .
ويسرد بعد ذلك بعض حكما في شكل نصائح ينتصح بها مذكرا بأن الحوادث لا مفر للإنسان منها وأن أجله معلوم لا يستقدم ولا يستأخر عنه ساعة ، وأنه يسعى ويجمع المال باستهتار ولكن الأجل لا يسعفه ليأكل ما جمع . وإذا جاء أجله وهو ما لا مفر منه لأنه لكل إنسان مصرع مضى لا يجيب من دعاه ولا يسمع .
وحري بكل كبير في كل عصر وفي كل مصر أن يوصي أبناءه وأقرباءه بمثل وصية هذا الشاعر بل حري بكل إنسان أن يعلق أبيات هذه القصيدة على جدار بيته ، ويتأملها بين الحين والآخر ، ويتأملها معه أقاربه لأنها تعبر عن حالة يمر بها لا محالة كل إنسان.
وقلما يدعو اليوم المسنون أقاربهم لسماع وصاياهم حين يوشك حلول أجلهم كما كان دأب السلف الصالح الذين كانوا يختصرون في وصاياهم خبراتهم لينتفع بها الأبناء والأقارب والأصدقاء ، وقلما يصغي الأقارب إلى وصاياهم .
ومما يؤسف له أن الناس في زماننا هذا يجهلون ما خلف لنا السلف من حكم نظموها في أشعارهم الرائعة بلسان عربي مبين ، وفي المقابل يهتمون بسفاسف الكلام.
وسوم: العدد 833