عن عودة اللحى وتمزيق الثياب
يستقبلك بلحية طويلة، ينظر إليك بعناية، يدقِّق في قائمة موضوعة بين يديه، ثمّ يعثر على اسمك مكتوباً بعد الفحص؛ فيمنحك ابتسامة ترحيب من فوق لِحيته الكثّة، والمصففة بعناية، قائلاً: تفضّل سيِّدي! لا مشكلة مع هذا الطراز من اللِّحى، فصاحبنا يعمل في مَطعم فاخر يرتاده أولو الحظوة، وقد وَجدوا أنّ هيئة ذقنه هذه ملائمة تماماً لموقع عمله الذي يتقاطر عليه الذين يحرصون على أناقتهم.
علينا أن ننسى الآن كلّ الغمْز واللّمز الذي سمعناه حتى اليوم عن اللِّحى الكثّة وحامليها. يتعطّل النقد والتحامل عند المنخرطين في الصيْحة الصاعدة منذ سنوات، فمغزى التحوّل أنّ المشكلة كانت مع "لِحَى المشايخ والدراويش" ومَنْ هُم في حكمهم تحديداً؛ وليس مع مثيلاتها التي يأذن بها أباطرة تصفيف الشعر وتنسيق الأزياء؛ وإن جاوَزت الأولى طولاً وتعدّتْها كثافة.
من سيرة "اللحى العصرية"
تعبِّر بعض اللحى عن انتماءات وتشي بمشارب وتُفصح عن نزعات، فمنها ما يرتبط بدين أو ثقافة أو فلسفة أو اتجاه. وليس جديداً على اللِّحى "العصرية" أن تتسيّد المشهد على هذا النحو، فقد كانت اللحى الكثيفة صيْحة جارفة بين نخب أوروبا من القرن الثامن عشر حتى أوائل القرن العشرين. حرص عليها العلماء والأساتذة والفلاسفة والمشاهير، حتى ندر في بعض الجامعات أن تجد من لم يُعْفِ لِحيَته.
تكفي جوْلة واحدة في صحن جامعة فيينا التاريخي المسمّى "آركادِن هوف" أو "فضاء الأعمدة" لتُحاصِرك لِحى العهد البائد كما هي منحوتة في تماثيل أساتذة الجامعة الكبار عبر قرنيْن من الزمن. ومن فوائد الجوْلة أن تكتشف، أيضاً، أنّ الجامعة العريقة كانت مجتمعاً ذكورياً بلا أستاذة واحدة تقريباً؛ شأْن جامعات أوروبا الأخرى. لازَمت اللحى الكثّة أو المصففة مشاهير بزغوا في ميادين العلم والفلسفة؛ من أمثال تشارلز داروين وصموئيل مورس وكارل ماركس وألفريد نوبل وأنطونيو ميوتشي وآخرين كُثُر. وقد يحسب بعضهم، مثلاً، أنّ لحية زعيم الصهيونية السياسية تيودور هرتزل الكثّة ما أُرخِيَت إلاّ تعبيراً وفيّاً عن التزامه باليهودية التي سعى إلى إقامة دولة تنتسب إليها زعماً، والصحيح أنّ هرتزل انجرف مع موْجة زمانه الشائعة وسط النخب في إعفاء اللحية؛ ولو كان باعثه دينياً لاعتمر قبعة اليهود الحريديم الذين ناصبوه العداء وبادلهم هو مثل ذلك إلى أن مات على هذا وأفضى إلى ما قدّم.
صورة الملتحي المزرية
رسمت خطاباتٌ عربية رائجة صورةً مُزرية للملتحي، فمَن بوسعه مثلاً أن يتجاهل عادل إمام في إطلالاته الساخرة التي قدّم فيها مشهداً كريهاً لأصحاب الذقون في أفلام الثمانينيات والتسعينيات؛ إلى درجة شيْطنتهم التي تتطابق مع تصنيف أمنيّ للمجتمع؟ ولا تغيب صورة الملتحي الساذج التي قدّمها دريد لحّام في هيئة المأذون الشرعي مثلاً خلال الأدوار الفكاهية التي أُسنِدت إليه لاستدرار الضحك في فيلم "صحّ النوم" (1975) وغيره.
لم تنفكّ تعبيرات الازدراء المرئيّة تلك وكثير غيرها عن نزعات جارفة شهدتها بيئات عربية ومسلمة، حتى أنّ شعيْرات الذقن كانت كفيلة بطرد الطالب من جامعته إلى قارعة الطريق في تركيا حتى أوائل القرن الحالي مثلاً، أسوة بمصير طالبات اختَرْن ستر شعورهنّ، بمقتضى إجراءات تعسّفية ربطت فرص التحصيل الأكاديمي بالانصياع القسري في اختيارات الهيئة لما تقرِّره تشريعات مفروضة ونُّظُم جبرية.
وشاع في بعض المنصّات الإعلامية والثقافية العربية ازدراء الملتحين والتعريض بهم، وعُدّت اللِّحى في بعض المؤسسات والشركات العربية "الحديثة" خارجة على "روح العصر" ومُخالِفةً للانضباط المقرّر بمعايير اللِّباس النظامية، ثم وقَع التهاون معها فجأة إلى درجة الترحيب بها أحياناً؛ لمّا صارت صيْحة مُعَولَمة لا تشي بالانتساب إلى الذّات الجمعية العربية المسلمة أو خصوصياتها التقليدية.
مأزق نفسي وجموح وجداني
كان التهجّم الانتقائي على اللِّحَى تعبيراً عن مأزق نفسي محتمل وجموع وجداني مرجّح، فمَن هاجموا إطلاقها وأشبعوا أصحابها غمْزاً ولمْزاً؛ لاذوا من بعدُ بصمْتٍ خجول وصرفوا عيونهم عن الحالة المتفاعلة من حولهم، ولعلّ بعضهم انخرط في طقوسها الجديدة فأخذوا يطلبون تصفيفها على الطريقة التي يقترحها مصمِّمو المرحلة الذين يفضِّلونها أحياناً طويلة أو كثّة على ما يبدو.
يعزِّز هذا التحوّل في الخطاب الناقد استنتاجاً محقّاً بأنّ مشكلة الناقدين والمتحاملين المزمنة لم تكن مع اللِّحية بحدِّ ذاتها أو حتى مع السِّواك الذي أشبعوه تهكّماً في السياق ذاته؛ وإنما مع حمولة نفسية مُفرَغة عليهما. هذا ما حصل ما شواهد أخرى؛ مثل الثياب المهترئة والممزّقة التي ذُمّت من قبل لأنها عبّرت عن اختيار ناسِكٍ متبتِّل أو حياةٍ درويشٍ زاهد أو فاقةٍ فقيرٍ مُعدَم، ثمّ صارت مرغوبةً تماماً وِفْقَ منطق الثقافة الاستهلاكية الجماهيرية، فيكفي طبع علامة تجارية عليها لشرعنتها وإكسابها التقدير.
للحالة ملابساتها التي تمضي إلى تسويغ المَسلك الذي ذَمَّتْه من قبل؛ بمجرد أن يحظى بشَرعَنة "غربيّة" مُعولَمة كما يتصوّرها القوْم. لم يكن مقبولاً عند بعضهم، مثلاً، الخروج بنَعل مطاطيّ بلا كعب تنكشف به القدم، لكنّ "الشبشب" أصبح عندهم مستساغاً لمّا صار اسمه "فليب فلوب"، وهذا - على ما يبدو - بتأثير قدَم بيضاء دُسّت فيه وجعلته مرغوباً وبفعل علامةٍ تجارية مُعولَمة طُبِعت عليه ومنحته الشرعية المجتمعية، رغم مئات الملايين من رفاق البؤس والفاقة من الآسيويين والأفارقة واللاتينيين الذين انتعلوه من قبل في بيئتاتهم المحلية دون أن يُمنَح النعلُ الخفيف المكشوف التقديرَ ذاته أو الاعتراف المجتمعي بجواز الخروج به في مسالك محظيّة.
تتزاحم الأمثلة التي تشي بالعُقدة عيْنها. فسلوك تقصير الثوْب بدعوى "تطبيق السُنّة" لقي استهجاناً من بعضهم وعدّوه اختياراً "غير لائق" بالعصر، لكنّ بعض الناقدين تسابَقوا من بَعدُ إلى تمزيق ثيابهم وإحداث خروق وفجوات فيها أو اشتَروْا ما اهْترَأ منها بأثمانٍ باهظة ولعلّهم عمدوا إلى تقصيرها أيضاً؛ امتثالاً لسُنّة الأزياء المستجدّة وطقوس صنعتها المستشرية. فهل كان القوْم أمناء حقاً في نقدهم أو صادقين فعلاً في استهجانهم؟ تبقى هذه الشواهد وما لفّ لفّها ومضاتٍ كاشفة لمأزق نفسي واضطراب ثقافي أوسع نطاقاً وأعمق غوْراً مما يبدو من ظاهرها؛ حتى أنّ بعضهم يمنحون الذات الجمعية تقديرها إن حازت اهتمام "الآخر" ابتداءً، أو بعض "الآخر" تحديداً؛ ولابدّ أن يكون هذا الآخر "غربياً" بالطبع.
معارك مفتعلة مع اللباس التقليدي
عمَد بعضهم إلى تشديد النّكير على أنواع من اللِّباس التقليدي -تصريحاً أو تلميحاً- وعَدُّوه خارجاً على "معايير اللياقة" ومفارقاً لـ"روح العصر"، ولم يفطنوا إلى أنّ اللِّباس "العصري" الذي تبنّوْه واعتبروه أصلاً ومرجعية؛ إنّما هو أوروبي المنشأ أساساً، وأنه ملائم لخصوصيات بيئية وثقافية معيّنة، وأنه متغيِّر بطبيعته وليس ثابتاً بالأحرى. وإنّ المرء ليُشفِق على نُخَب نشأت في بلاد حارّة ثم أثقلت أبدانها بملابس أوروبية متراكمة في أيّام العمل تحت شمس لاهبة، فتقيّدت طوعاً أو كرهاً بمعايير مفروضة عليها أو مرجوّة منها في اللِّباس والهيئة.
مما أذكى هذه الحالة من الافتعال والتصنُّع خطاباتٌ دفعت -بوَعي منها أو بدون وَعي- نحو تعميم النموذج الأحادي السائد ذي المنشأ الأوروبي ولعلّها منحت الانطباع بأنّه بلغ بالأمم نهاية تاريخها فلا تبديل له إلاّ في تفاصيل جزئيّة تقرِّرها صفوة محظية من مصمِّمي الأزياء وصانعي الحالة في "الغرب" ذاته. أغفل القوْم مقتضيات التطوّر الاجتماعي والخصوصيات الثقافية والبيئية لمسألة اللِّباس والزيّ، ولم يزهَد بعضُهم ببثّ إشارات ناقدة، بلغت أحياناً مبلغ التهكّم على مظاهر ارتبطت بأنماط من التديُّن والانتماء الثقافي المحلي؛ كهيْئات من اللباس وأنماط من اللِّحى وطرائق من التصرّف مثلاً.
أدركت أوساط عريضة في المجتمعات العربية والمسلمة، من بعدُ، عبثية المراهنة الساذجة على محاكاة أوروبا في هيئة لباسها وتقمّص ذوقها السائد في اللباس والتصرّف وتصفيف الشعر، فالتجأت -ضمن ملابسات متعددة- إلى محاولة البحث عن ذاتها التائهة باستدعاءات مخصوصة في الملابس ومواصفات الهيئة مما ينتسب إلى الخصوصية الدينية والثقافية. جاء هذا التحوّل الملحوظ بعد عهد من الانغماس الجارف في تقليد نموذج أوروبي متصوّر واعتباره مرجعية لا فكاك منها، فطرأت استدارة ثقافية كانت لها مظاهرها في هيئات النساء والرجال معاً، وقابلتها نزعة سخرية وتهكّم من هذه المظاهر؛ ومنها لحى الرجال وتستُّر النساء مثلاً.
منطق انتقائي متحامل
لا مناص من الاعتراف بأنّ تسليط النّقد والتهكّم على اختيارات اللِّباس المحسوبة على مَن يُعَدّون متديِّنين أو متمسِّكين بثقافتهم التقليدية وهويتهم المحلِّية؛ أفصح من هذا الوجه عن منطق انتقائي متحامِل وربّما عن جهْل بمسألة اللِّباس وتجاهُل لملابساتها الثقافية والاجتماعية أيضاً. إنّ اختصاص هيئات وأشكال معيّنة بالنقد الانتقائي على هذا النحو جاء في حالات عدّة تحيِّزاً لهيئات وأشكال أخرى مستوحاة من طقوس أوروبية المنشأ اندفعت مجتمعات الأرض إلى محاكاتها خلال العهد الاستعماري وما أعقبه، ورافق صعودَها طمْسُ خصوصيّاتٍ ثقافية اصطبغت بها أمم ومجتمعات شتّى حتى حينه.
تشبّعت مسألة اللباس برمزيات مكثّفة وعبّرت من هذا الوجْه عن صراعات ثقافية أيضاً، بما يفسِّر الأهمية المبالغ بها التي حظيت بها في بعض بلدان العالم الثالث على مدى القرن العشرين، ومن الواضح أنها كانت في بعض تجلِّياتها تعبيراً عن نزعة لِحاق بأوروبا المتخيّلة بأسلوب التقمُّص الساذج في الهيئة والمحاكاة الدونيّة في التصرّف.
ليس خافياً أنّ بعض هذا الانجراف الأهوَج جاء تحت وطأة دعاية ثقافية أوروبية المنشأ ربطت التخلّف بملامح بصرية محسوبة على المجتمعات التقليدية وعقدت ارتباطاً شَرْطياً معها؛ مثل تستُّر النساء والالتزام بأزياء وهيئات وطرائق في التصرّف ضاربة بجذورها في أعماق أمم وشعوب وقبائل. ومن تناقضات الحالة أنّ بعض الذين استنكروا الالتزام بأزياء مُخالِفة لأنماط تفرضها السطوة المعولمة أو استهجنوا العودة إلى ملابس تقليدية؛ ينتهكون بهذا الموقف المتحامِل شعاراتٍ يرفعونها عن أهمية احترام "التنوّع الثقافي" وملامح "التعددية" في عالمنا.
تتّضح جوانب إشكالية أخرى من مسألة الزيْ واللِّباس لدى إدراكها من منظور عالمي أوسع يراعي تعدّد الثقافات وتنوّع البيئات، بما يشير إلى أنّ تفضيل زِيّ "غربيّ" أو نمط مُعولَم قد عبّر في حينه عن انصياع لموْجة سائدة أو صيْحة صاعدة لم تَقْوَ على استدعاء الحسّ النقدي وروح التمحيص إزاءها في مجتمعات رضخت لهذه المؤثِّرات الكثيفة الوافدة عليها. فما الذي أرغَم رجال الأرض على الظهور بربطات معقودة بإحكام حول أعناقهم إلى درجة مَنْع بعضهم من دخول مواقع العمل بدونها، ثم وقع التخلِّي عنها نسبياً بعد مدّة من الزمن لأنّ معاقل ربطات العنق تساهلت مع أمرها وصارت تعدّ الفكاك منها خياراً مستساغاً؟ مَن الذي قرّر اختيار ربط العقدة في منشئه ثم رأى العدول عنه بحلّ العقدة من حول العنُق لاحقاً؛ بما فرض على أمم ومجتمعات اللِّحاق بالحالة الأولى والنزول عند نقيضتها الثانية على هذا النحو؟
ينبغي الفكاك من تصوّرات سطحية تربط التقدّم بمحاكاة اختيارات شكلية مخصوصة في اللِّباس والهيئة والتصرّف، ويجدُر كشف الزيْف الكامن في خطابات تستعمل النقد والتهكّم بمنطق انتقائي مُتحامِل يرى بعيْن واحدة وقد يشي بحمولة نفسية غير سويّة. تلك مراجعة لا غنى عنها في سبيل تحرير نفسية الأجيال من أزمات ثقافية وعُقَد حضارية مفتعلة كي تتخلّص من نزعة ازدراء الذات وتحقيرها ومطاردتها بسياط التأنيب، وكي تقوى في الوقت ذاته على استدعاء حسِّها النقدي وروح التمحيص في مواجهة الإغراق المتصاعد بثقافة استهلاكية تقوم على منطق "الالتحاق القطيع" بمحاكاةٍ عمياء للهيئة والمظهر والسلوك. إنّ الانصياع غير الواعي لمنطق التقمّص والمحاكاة والالتحاق بالموجة؛ يفرض على الجمهرة أن تشتري ثياباً مهترئة، وأن ترتدي سراويل ممزّقة، وأن تزهو بها في الطرقات بعد أن ذمّتها من قبل.
وسوم: العدد 834