لا تخليق للقطاع العام في بلادنا دون وازع ديني
من المعلوم أن كل خطاب ملكي يمثل خريطة طريق لا مندوحة عنها من أجل البلوغ بالوطن إلى ما تصبو إليه قيادة وشعبا . وكل عبارة ترد في هذا الخطاب تحيل على مكمن داء أو علاج دواء . ومما شد الانتباه إلى خطاب العرش بمناسبة مرور عقدين كاملين على تربع جلالة الملك على عرش المغرب العبارة الآتية : " القطاع العام يحتاج دون تأخير إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد ، ثورة في التبسيط ، وثورة في النجاعة ، وثورة في الخليق "
هذه العبارة بالرغم من إيجازها تضمنت ألفاظا تقتضي وقفة لإدراك أبعادها وهي :
لفظة "دون تأخير" الشيء الذي يعني استعجال الملك لما يحتاجه القطاع العام من مراجعة ، ولا يكون الاستعجال إلا حيث يكون الداعي الملحّ ، ولا شك أن هذا الداعي هو القناعة لدى القيادة بأن القطاع العام ليس بخير ، وهو ما يعتقده الشعب أيضا وما يعني حالة إفلاس وانهيار .
أما اللفظة الثانية في العبارة ، فهي" ثورة " متبوعة بوصف" حقيقية "، ومعلوم أن دلالة لفظة ثورة تعني إحداث تغيير أساسي في الوضع مع اختلاف في وسيلة التغيير ، وفي الجهة التي تقوم به . ووصف الثورة بالحقيقية يجعل الأذهان تنصرف إلى الجدية والعزم الأكيد في إحداث التعيير الأساسي في الوضع . ولفظة ثورة ذات شحنة أكبر من لفظة تغيير لأن الثورة تحدث طفرة واحدة بينما
التغيير يكون تدريجيا .
أما اللفظة الثالثة فهي "التبسيط "، وهو نقيض التعقيد ، الشيء الذي يعني أن القطاع العام لا زال أسير التعقيد في طريقة تدبيره وتسييره . وما كان التبسيط في أمر إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خيّر بين أمرين اختار الأيسر . واليسر تبسيط الأمور ، وتنكب تعقيدها.
أما اللفظة الرابعة ، فهي" النجاعة "التي تعني النفع والفائدة ، وقولهم دواء ناجع يعني أنه له نفع وأنه يشفي ،علما بأنه قد تستعمل الأدوية ولا نفع ولا شفاء ولا فائدة فيها . ومما توحي به هذه اللفظة أن القناعة السائدة لدى القيادة وشعبها على حد سواء أن القطاع العام يعاني من علة تقتضي العلاج الناجع . ولا يكون العلاج ناجعا إلا إذا كان تشخيص العلة مصيبا .
أما اللفظة الخامسة ، فهي "التخليق " ، وهي مربط الفرس كما يقال ، والتخليق من فعل خلّق على وزن فعّل الذي يدل على معان كثيرة منها التكثير ، والتعدية ، والإزالة ، والتوجيه إلى الشيء،وصيروة الشيء إلى ما يشبهه ، ونسبة الشيء إلى أصله أو صيروته إليه . ولا شك أن هذا المعنى الأخير ينسحب على التخليق الذي هو عودة أو إعادة إلى الخلق الذي هو أصل. والدعوة إلى تخليق القطاع العام يعني أنه يفتقر إليه بسبب ما يسوده من ممارسات تتنافى مع الأخلاق .
ومعلوم أن التخليق لا يمكن أن يكون في غياب الوازع الديني ، والوازع هو الكافّ، والمانع والزاجر، والناهي ، والحابس ، والرادع . ولا يسد مسد الوازع الديني وازع غيره لأن هذا الوازع مرتبط بمراقبة الخالق سبحانه وتعالى الذي لا تنام عينه ولا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . وأي وازع غير هذا الوازع يمكن أن يكون في مستواه ؟
ومعلوم صلاح أو فساد كل الأمور في هذه الحياة يتوقف على حضور أو غياب الوازع الديني الذي لا يمكن التحايل عليه كما يمكن ذلك مع غيره مما يضعه البشر من قوانين .
وكل من يحكمه الوازع الديني يضع على الدوام نصب عينيه الرقيب العتيد الذي لا يغيب ، ويخشاه ، ويخشى محاسبته الآجلة التي لا تتقادم ولا تنسى ، ولا تطمس ، ويكون عيار الميزان فيها مثقال الذرة وأنى للمحاسبة العاجلة هذا العيار ؟
إن إصلاح القطاع العام في وطننا المعطاء بلا حدود هو الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل ، وهذا هو معنى الوازع الديني الذي لا يكون تخليق هذا القطاع إلا به ، ولأمر ما قيل إذا لم تتق الله فافعل ما شئت ، بمعنى إذا غاب عند الوازع الديني فافعل ما شئت لأنك تكون في حالة إفلات من كافّ يكفّك ، ومانع يمنعك ، وزاجر يزجرك ، وناه ينهاك ، ورادع يردعك ، وحابس يحبسك . ومن تجرأ على من لا يغيب ولا تنام عينه ولا يموت ، كان أكثر جرأة على من يغيب وتنام عينه ويموت .
وسوم: العدد 835