حكايتي مع الإبداع الثقافي ونقده
(ملاحظة: المقال كتب قبل عقد من السنين، وها انا انشره كيوميات بعد تردد طويل من رؤيتي ان الصورة اليوم لم تختلف بل تزداد سلبية)
يتهمني بعض مزاولي مهنة الشعر، باني فاقد للمنطق الثقافي، ولم اعد اجاري عصري، ومن هنا نقمتي على شعرنا المحلي وعلى الكتابات الأدبية المختلفة، ان كانت قصة او قصة قصيرة جدا، او مقالة نقدية. وبصراحة، في مواقفي أحاول ان أكون وسطيا، لعلني صرت دقة قديمة لا افهم الحداثة الأدبية التي يثرثر بها البعض دون فهم لجوهرها، ولا الشلال المتدفق من الشعر في ثقافتنا. الكثيرون يحلمون ان يكونوا نسخة من محمود درويش او من أحد زملائه. لدرجة ان بعضهم، حتى يظلوا بارزين على صفحات الانترنت، بدأوا بجيل متأخر جدا يكتبون الشعر وأقول الشعر مجازا!!
استمعت بحيرة لأحاديث بعضهم عبر الأثير يتحدثون عن قراءاتهم وادعاءاتهم الثقافية، طُلب مني تعقيب عبر الهاتف، ولم أكن قد استمعت الى كل الجواهر التي طرحت بالبرنامج. طبعا طرحت رؤيتي التي عبرت عنها في العديد من مقالاتي، تجاهلت الحديث المباشر عما استمعت اليه من كتاباتهم، وأعطيت وجهة نظر عامة جدا، أقرب للفكر الثقافي العام، لأني لا أرى بأن برنامجا عبر الأثير، لفترة نصف ساعة لأربعة مشاركين بالبرنامج يتسع لمداخلة أوسع وطرح رؤية نقدية تعتمد على النصوص. السمع ليس مرجعا، خاصة وان الاختصار كان مميزا لما قرأه الزملاء، ومميزا لما تفضل به الناقد. فقط اضيف ان كل ما قرأه الزملاء وجد الاعجاب الكبير من الناقد، بل ما وصلني عبر الأثير جعلني اظن ان الناقد يتناول وجبة طعام شهية. طبعا الاعجاب كان كبيرا بغض النظر عن ضحالة الفكرة وقدرة الشاعر عن التعبير الفني، ولم يؤثر غياب المضمون الشعري الواضح على موقف الناقد، وهو بالتأكيد كان الرابح الوحيد من البرنامج، لأنه سيحظى بحب كبير من المشاركين واغراقه بمؤلفاتهم الجديدة ليجعل منهم شعراء كبار وعالميين. اعتذر من المشاركين، فلعلني مصاب ببعض الطرش فلم اسمع جيدا كل ما تفضل به الشعراء والناقد.
كما يبدو وجهة نظري العامة وغير المحددة بشخص ما، لم تقع جيدا على آذانهم، ربما كان توقعهم ان انافس الناقد الكبير بالإشادة بما القوة، وانا ارتكبت حماقة عندما طرحت فكرتي الفلسفية عن الأدب ومكانته الاجتماعية والثقافية متجاهلا الخوض بما استمعت اليه لأنه لا منطق من نقد بالاعتماد على السمع لمقاطع من القصائد. أحدهم قال بأستاذية يحسد عليها بأن مشكلتي أني لم استوعب الحداثة وتفاعلاتها في الادب الحديث، للأسف كان دوري قد انتهى ولم املك الوقت لأشرح مفهوم الحداثة التي لم تنشا في ثقافتنا وحضارتنا العربية، لأن الحداثة بجوهرها هي انعكاس لمجتمع متطور اقتصاديا وعلميا (مجتمع حضاري)، وهي ليست وقفا على الأدب فقط، بل لها مكانتها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفلسفية في تطوير مرافق الحياة بكل اتساعها وشموليتها، وهي ليست ظاهرة أدبية بجوهرها لكنها تركت أثرها العميق على تطور الأدب كمسار طبيعي لتطور المجتمع بكل مرافقه، وطبيعي تماما ان تنعكس الحداثة على الابداع الأدبي، طبعا هناك تأثير للحداثة على العديد من المثقفين العرب، مثلا بدر شاكر السياب، وناظم الملائكة وغيرهم. ويمكن اعتبار أدب المهجر العربي، متأثرا حتى النخاع بالحداثة، لغة واسلوبا وأفكارا وصياغات.
اعترف ان الزملاء المشاركين بالبرنامج تكلما باتزان وهدوء، رغم انتقادهم عدم طرح رأيي حول ما سمعته، ولا اظن انه يمكن عبر دقائق بالأثير طرح رؤية نقدية.
أقول بلا تردد، عدا القلة من المبدعين يكاد يكون غياب كامل للأعمال الأدبية المثمرة التي تنشر. حين عملت نائبا لرئيس التحرير ومحررا ادبيا في صحيفة "الأهالي "(صدرت بين 2000 – 2005) رفضت بقوة نشر اي عمل ادبي مما سماه الزميلان وراء الأثير بالحداثة الأدبية او الشعرية (لأنها غير موجودة أصلا). وانهي مداخلتي بمقطع شعري، لشاعر من "قرية الشعراء" البقيعة، احترم مكانته الشعرية واعتبره اليوم من أبرز الشعراء المحليين وهو الشاعر حسين مهنا. يقول في قصيدة له اخترتها عشوائيا:
"سألتك : لا تقتلي الشعر عمدا
بطول التمني
وبعد الرجاء
ولا تتركيني اسيرا لطيفك هذا المساء
وكل مساء
تعالي فما زال في القلب بعض اخضرار
سينزف وردا
يعيد الى الحب ما ضيعته الدروب
وللشعر قيثارة الحب والكبرياء "
وفي قصيدة وطنية، عنونها "كأني اراكم" ينشد بأسلوب فني وبدون شعارات وصراخ:
كما قد رأتكم دمائي
على باب (عاي)
تشدون خيلا
وتعدون خلفي
ويوم صرختم بباب (اريحا):
- تموت ... تموت
وراحاب تحيا ..!!
حملت الحياة على راحتي
وسرت على مهل أنثر الحب والشعر
سرت .. سرت .. سرت ..
انا استزيد الحياة حياة
وأنتم تشدون خيلا
وتبغون حتفي.
هذا الشعر يحمل من الحداثة بمفهومها الأدبي الكثير من المعاني التي تشد القارئ. والأهم انه لا يحتاج الى جهابذة النقد لتحليله، لأنه شعر يتدفق كالماء بلا ضجيج، ويتغلغل بجماله ورونقه في وعي القارئ واحاسيسه. وهو، وهذا الأساس، لا يحتاج الى مثقف عبقري (نابغة عصره) ليفهمه ويشرحه للقراء المساكين، اذ ما قيمة الشعر حين تصبح قراءته مثل سباق اجتياز الحواجز، ما ان نصل لنهاية القصيدة حتى تنقطع انفاسنا وتتورم سيقاننا!!
في التلخيص النهائي اقول ما يلي: الحداثة او حداثة ما بعد الحداثة، هي تعابير عقيمة لأنها اخرجت من مسارها التاريخي. فالحداثة اولا عملية تنوير اجتماعي وثقافي وفكري. مجتمعنا، وكل المجتمعات العربية عامة، ما زالت على ضفاف الحداثة، او ما قبل ذلك.
حتى على المستوى السياسي تتحكم بمجتمعاتنا قوى تفتقد للتوازن السياسي والفكري والثقافي. السيطرة للأسف ليست لحركة الإصلاح والتنوير العربية، ان المحاولة للتقدم دون فهم اهمية عصر التنوير الذي حرر الانسان من التخلف الاجتماعي والعلمي والقوى الظلامية (مثلا الاستبداد الديني لكنيسة العصور الوسطى في أوروبا)، ووضع مستقبله بين يديه، وغير اولويات حياته، وحرر من القيود الدينية الفكر والعلوم والاقتصاد والثقافة وتضاعفت اوقات راحته وقدراته الاستهلاكية بمختلف انواعها، ودفعت مستوى الحياة الى مستويات متقدمة، هي ما قادت الى نشوء الحداثة في الثقافة الأوروبية.
اين نحن منها اليوم؟
وسوم: العدد 836