هل الهجرة حدث ماضوي طواه الزمن أم هي سلوك متجدد عبر الزمن ؟
لازال حدث هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدر إلهام كلما حل بنا عام هجري جديد حيث تستقى منه الدروس والعبر التي لا تنضب . ولو كان حدثا ماضويا كما يحلو للبعض وصف كل ما يتعلق بدين الإسلام ممن يحملون الفكر الإقصائي من أجل إثبات ذواتهم ونفي غيرهم لما استمر النهل من دروسه وعبره قرونا طويلة .
ومع مطلع كل سنة هجرية يجد الإنسان المسلم نفسه أمام السؤال الآتي : ما الذي يعنيني من حدث الهجرة ؟ ويختلف المسلمون في الإجابة عن هذا السؤال ، فبعضهم يرى أن الهجرة كانت وانتهت ، وهي مجرد حدث ماضوي طواه الزمن وعلاقتنا به هي الاقتصار على الاحتفال بحلول موعده سنويا ، وتبادل التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة جريا على عادة الذين يحتفلون بالسنة الميلادية الجديدة ، والبعض الأخر له قناعة أخرى وهي أن الهجرة سلوك متجدد عبر الزمن ، وهو يعنيهم كما كان يعني من قبلهم عبر قرون ، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
والفصل في هذا الاختلاف بين هؤلاء وهؤلاء يقتضي منا توضيحا ننطلق فيه من الإشارة إلى أن رب العباد جل جلاله كتب الهجرة على الخلق منذ بدء الخليقة وعلى رأس هذا الخلق أصفياؤه من رسل وأنبياء كرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين، وقد وردت إشارات في القرآن الكريم تثبت ذلك منها قول الله تعالى في سياق الحديث عن نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام وما كان بينه وبين قومه من جدال انتهى بالحكم عليه بالقتل أو التحريق : (( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ))، وقد اختلف المفسرون في القائل فقيل هو إبراهيم الخليل وقيل هو لوط عليهما الصلاة والسلام . ومهما يكن من أمر فقد ثبتت هجرتهما معا من موطنهما الأصلي إلى غيره بعدما صار الموطن الأصلي وكر كفر يضيق على دعوتهما إلى الإيمان بالله عز وجل . وورد ذكر هجرة رسل وأنبياء آخرين منهم الفار من قهر وخوف كموسى عليه السلام ، ومنهم المغاضب كذي النون يونس عليه السلام ، ومنهم المكلف بنشر رسالة الإسلام العالمية على أوسع نطاق كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان التاريخ البشري قد سجل هجرات بشرية لأسباب أمنية أو اقتصادية أو طبيعية أو دينية فردية وجماعية ، فإن الهجرة بالمفهوم الإسلامي تعتبر جزءا من العبادة تتعلق بصيانة الإسلام حين يستهدف في حيز مكاني ما من طرف خصومه من ملة الكفر .ولقد ميز الله عز وجل بين الهجرة بالمفهوم الإسلامي عن غيرها من الهجرات ،فسماها هجرة في سبيله لا في سبيل غيره ، وتعهد بعظيم الجزاء في العاجل والآجل لمن هاجر في سبيله فقال وهو أصدق القائلين : (( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما )) .أما أجر العاجل فهو المراغم الكثير والسعة ، أما المراغم، وهو اسم مكان من فعل راغم إذا ذهب في الأرض وهي ذات رغام أي تراب ، وقد يستعمل فعل راغم للدلالة على من يغلب غيره ويقهره ،لأن الذي يغلب غيره يلقيه أرضا فوق الرغام . والمراغم الكثير عبارة عن بدائل كثيرة يجدها من يهاجر من مكان تم التضييق فيه عليه . والسعة نقيض الضيق ، وتكون في المراغم الكثير ، كما تكون عبارة عن رغد العيش والأمن والأمان بعد خوف وجوع . أما أجر الآجل فهو الجنة، ويعطى حتى لمن لم يدرك مهجره ومات وهو في الطريق إليه لأن الله عز وجل يجازيه بنيته وقصده عملا بقول رسول الله صلى الله عيه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وهذا الحديث يؤكد اختلاف الهجرة في دين الله عز وجل عن باقي أنواع الهجرة في غيره ،وبمعنى آخر هناك هجرة دينية تعبدية وهجرة دنيوية استهلاكية .
ولقد وجد رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم من الذين هاجروا في سبيل الله ما وعدهم ربهم في العاجل مراغم كثير وسعة ، وسيجدون جزاء الآجل جنة ونعيما . وهذا الأجر عاجلا وآجلا يكون من نصيب كل من كانت هجرته في سبيل الله أي عبادة وطاعة .
ولما كانت الهجرة في سبيل الله عبادة وطاعة ، فإن الناس ملزمون بها إلى نهاية العالم وقيام الساعة ، وقد تختلف أشكال وأساليب تلك الهجرة لكنها تبقى ذات مغزى واحد . وقد يهاجر المسلم في كل عصر فرارا بدينه من دار الكفر إلى دار الإسلام كما وقع لمن كان قبلنا من أهل الإيمان ، وقد تأخذ هجرته وهو في دار الإسلام شكلا وأسلوبا آخر كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " وهذا حديث يدل على أن الهجرة مستمرة في كل عصر ومصر حتى في دار الإسلام حيث تأخذ شكل هجر المعاصي تماما كما تهجر دار الكفر لكونها دار المعاصي .
والسؤال الذي يجب أن يطرحه المسلمون اليوم هو : هل نحن مهاجرون بالمعنى الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أي هل سلم بعضنا من ألسنة وأيدي البعض ؟ وهل هجرنا ما نهى الله عنه ؟
الملاحظ أن احتفالنا بالهجرة صار يقتصر على تبادل التهنئة بحلول عام هجري جديد يتجاهل أو يجهل الكثير منا شهوره وموعده حيث يفاجىء الكثيرون منا بعضهم البعض بأسئلة مخجلة من قبيل : ما هو الشهر الهجري الذي نحن فيه ؟ وكم يوم مضى منه ؟ وما هي السنة الهجرية التي نحن فيها ؟ وهذا دليل على فقدان وضياع الهوية الإسلامية عن عجز وجهل . ولا يفكر الكثيرون منا في الجانب التعبدي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وواقع حالنا يؤكد بالملموس أنه لا هجرة لنا ونحن لا يسلم بعضنا من لسان ويد البعض ، ولا نهجر ما نهى الله عنه ، ويكفي أن نستعرض حالنا مع وسائل التواصل الاجتماعي التي لنا التطور التكنولوجي حيث أصبح كل منا يستفيد من هذه النعمة الموجبة للشكر بحسن استعمالها وحسن توظيفها لطاعة الله عز وجل ولكننا مع شديد الأسى والحسرة والأسف لا نؤدي شكرها بل نستعين بها على معصية الله عز وجل وهو كفران لها ، وعلى النيل من بعضنا البعض باللسان وباليد .
ألسنا نتبادل الفيديوهات الساخرة من بعضنا البعض ، المعرضة بأعراضنا ، المروجة للأراجيف ، وللغيبة والبهتان ؟ إنه لم يعد أحد منا يسلم من ألسنتنا وأيدينا التي صارت بلورات هواتفنا الخلوية تنوب عنها . ولقد أفسدت وسائل التواصل الاجتماعي أخلاقنا فسادا فظيعا ، ووقعنا في كل ما نهى الله عز وجل عنه في محكم التنزيل من قبيل ما جاء في سورة الحجرات على سبيل الذكر لا الحصر ، وهي من أواخر ما نزل من التشريع الضابط للسلوك من سخرية ، ولمز، وتنابز ، واغتياب ، وبهتان ، وسوء ظن.
ألا يجدر بنا عوض الاقتصار على تبادل التهنئة بحلول عام هجري جديد أن ينصح بعضنا بعضا بالهجرة الفعلية وفق ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك من خلال ترك النيل من أعراضنا التي نستبيحها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، ونتندر بها ، ويطلب بعضنا من بعض نشرها على أوسع نطاق لنبوء بإثم إشهارها ، ونحمل وزرها ووزر من بلغته منا وبلغها عنا ؟
اللهم رد بنا إليك ردا جميلا .
وسوم: العدد 841