مزحة سمجة أخرى تحققت: اللجنة الدستورية السورية!
أمضى النظام الكيماوي في دمشق سنتين من التلاعب والمناورات لتأخير تشكيل اللجنة الدستورية، على رغم أنها مصممة لإدامة الوضع القائم. لا نأتي بجديد إذا قلنا إن مشكلة سوريا ليست في الدستور النافذ، بل في طغمة متسلطة على الدولة تتعامل مع البلد باعتباره ملك يمينها، بما في ذلك حرية التصرف به وتدميره وتهجير سكانه ومنح سيادته لدولتين أجنبيتين هما إيران وروسيا. ليست مشكلة سوريا في نص الدستور النافذ، بل في عدم احترام الطغمة المتسلطة له. ففي سوريا، ظاهرياً، حكومة وبرلمان منتخب وقضاء مستقل وسلطات محلية وجيش وشرطة ومدارس وحياة اقتصادية ومجتمع مدني وقوانين ناظمة للتعاملات بين الأفراد والمؤسسات.. باختصار هناك دولة. لكن جميع السوريين يعرفون أن هذا هو ظاهر الأمور فقط، وأن السلطة الفعلية هي في مكان آخر. فالنظام الجمهوري المعتمد في الدولة هو نظام على الورق، مقابل سلالة وراثية تحكم «إلى الأبد»! والبرلمان موجود ومنتخب من الشعب في انتخابات دورية، لكنه قادر على تمرير توريث منصب الرئاسة بالإجماع، ويصدر القوانين التي يتم تلقينها له من السلطة التنفيذية. والسلطة التنفيذية بدورها تنتظر التعليمات «من فوق» لتقوم بمهماتها. وعلى فرض وجود بعض القضاة المحترمين في «السيستم الأسدي» فهم يتعرضون لضغوط ترغمهم على اتخاذ القرارات المطلوبة منهم. الخوف هو المفتاح السحري الذي يفسر زمن الاستقرار في نظام الأسد، حيث تبدو الدولة الظاهرة وكأنها تعمل بصورة منتظمة و«طبيعية» من غير حاجة إلى ظهور الدولة العميقة إلى العلن بكامل أنيابها. أما وقد هدم السوريون حاجز الخوف، في مارس/ آذار 2011، وبدأوا يتحدثون بلغة بشرية مفهومة، أي يستهدفون سلطات الظل بصورة مباشرة، فقد كشرت هذه عن أنيابها اضطراراً، وعملت على تطبيق شعاري «الأسد أو لا أحد!» و«الأسد أو نحرق البلد!». هذان الشعاران هما الدستور الحقيقي الذي تحكم الطغمة الكيماوية بواسطته، ورأينا نتيجتها المنطقية في بقاء الأسد وإحراق البلد. كل ما تقدم معروف ومكرر في الأدبيات المعارضة، فلا جديد فيه، لكننا مرغمون على تكراره أمام هول المزحة السمجة التي تحاك لنا باسم «اللجنة الدستورية». القوى الدولية الفاعلة والقادرة تعرف، مثلها مثل السوريين، ما تقدم من وصف العلاقة بين الدولة الظاهرة وتلك الباطنة أو العميقة في سوريا. لكنها تتظاهر بأنها لا تعرف، ومثلها الأمم المتحدة التي «تبذل جهوداً كبيرة» لإيجاد حل سياسي، فيتنقل مندوبها الجديد بين دمشق وعواصم أخرى، بهمة ونشاط، وتثمر جهوده وجهود الدول عن «إنجاز» باهر حقاً هو تشكيل لجنة دستورية ستجتمع في جنيف للخروج بدستور متوافق عليه بين ممثلي النظام الكيماوي وممثلي المعارضة المعتمدة وممثلي المجتمع المدني. لقد تم التشكيل وفق ميزان عادل جداً بحيث يتساوى عدد كل مجموعة من المجموعات الثلاث، بلا زيادة أو محاباة لأي طرف! يا لها من عدالة رائعة!
من يمكنه الاعتراض على ذلك؟ بل إن آلية اشتغال هذه البنية هي آلية توافقية، لا يخسر فيها طرف بفارق صوت أو عدة أصوات. وإن لم يحدث توافق فنسبة التصويت المطلوبة لإقرار أي بند هي 75٪، أي ما يقارب الإجماع. يا للروعة! سوف يخرج السوريون من مناقشات اللجنة الدستورية وهم أكثر توافقاً بعد سنوات من الصراع الدامي. كأن إقرار الدستور هو هو الحل السياسي المنشود! أي عبقرية استطاعت أن تكتشف هذه الحقيقة البسيطة؟ فلا داع لمفاوضات سياسية عقيمة بين السلطة والمعارضة اتضح، بالتجربة العملية، أنها لا يمكن أن تؤدي إلى أي حل. فجاء هذا الاكتشاف لحل عقدة رفض النظام لـ«هيئة الحكم الانتقالي» التي وردت في قرار مجلس الأمن، ورفض المعارضة لبقاء رأس النظام في موقعه، باعتبار ذلك الحد الأدنى الذي يمكنها أن تقبل به. وهكذا تم ابتكار تشكيل اللجنة الدستورية لأنها أقل شيء يمكن أن يختلف عليه الطرفان، بل الثلاثة مع إضافة ممثلي المجتمع المدني بعبقرية المندوب الأممي السابق ديمستورا. نعم، قد يطالب ممثلو المعارضة مثلاً بتعديل عدد من البنود في الدستور النافذ، بخاصة تلك المتعلقة بمدة ولاية رئيس الجمهورية أو صلاحياته وعلاقته بالمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولكي يحدث التوافق، قد يقدم ممثلو النظام بعض التنازلات، مقابل تنازلات مماثلة، في بنود أخرى، من ممثلي المعارضة. وقد ترجح أصوات كتلة المجتمع المدني مطالب هذا الطرف أو ذاك. لكي نختصر، تجنباً لافتراضات متنوعة، سيتم الضغط، من قبل الأمم المتحدة والدول الضامنة (ثلاثي آستانة ـ سوتشي) ودول أخرى، على اللجنة ككل للخروج بإنجاز ما مهما كان كسيحاً أو قاصراً. من المرجح أن يعمل ممثلو النظام في اللجنة على إضاعة أكبر قدر من الوقت في مناقشات غير مجدية ومناورات وألاعيب لتأخير إصدار الدستور إلى أبعد وقت ممكن، ربما وصولاً إلى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة وفقاً للدستور النافذ. لذلك حرص الرئيس الإيراني حسن روحاني على إخبارنا بأن الانتخابات في سوريا يحتمل أن تجري بين 2021 ـ 2022. يراهن النظام، في ذلك، على الانتهاء من بسط سيطرته على كامل الأراضي السورية في غضون ذلك، بما في ذلك انسحاب الأمريكيين من شرق الفرات. وهكذا ستكون سوريا «ناضجة» تماماً لإعادة انتخاب الجزار لولاية ستحسب الأولى بعد إقرار دستور جديد أو تعديل النافذ. الأمم المتحدة و«المجتمع الدولي» يعرفان أن الدستور، مهما بدا تقدمياً في محتواه، سيبقى مجرد كلام على ورق إذا بقي النظام بأركانه وتعاملاته. وسيجبر قسم كبير من اللاجئين السوريين على العودة إلى الأرض المحروقة المحتلة التي اسمها سوريا، بذريعة أن الحل السياسي تم، وأقر الدستور، وجرت انتخابات «نزيهة وشفافة» تحت إشراف الأمم المتحدة. هذا ما يرتضيه العالم للسوريين: عودوا إلى بلدكم لتقتلوا أو تستعبدوا. هذا ما تستحقونه. سيقول قائل: وهل لديك بديل؟ يحتاج الجواب على هذا السؤال إلى بذاءة محمد علي ووائل غنيم. ربما لهذا السبب أحببناهما.
وسوم: العدد 844