تصفية الحسابات السياسية وراء التجاسر على الإسلام
من المعروف تاريخيا أن مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه كان نقطة تحول كبرى في تاريخ الإسلام حتى أن الحدث سمي فتنة كبرى تمخض عنها انقسام المسلمين إلى فئتين فرقهم أمر الخلافة أو فرقتهم السياسة بلغة عصرنا. وبسبب الخلاف بخصوص موضوع الخلافة وقع الصراع بين بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني أمية رهط عثمان بن عفان رضي الله عنه . وتولى زعامة بني هاشم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،في حين تولى زعامة بني أمية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، وانحازت لكل منهما القبائل العربية الأخرى .
واقتضى الصراع بين الفريقين إقحام الإسلام فيه بحثا عن الشرعية ، وبدأ الجدل العقدي بينهما وتمخض عن هذا فيما بعد معسكر سني وآخر شيعي، وتناسلت عن كل واحد منهما فرق وطوائف قد تجمعها مواقف وتفرق بينها أخرى تتحول إلى صدام كما كان الأمر على سبيل المثال بالنسبة للخوارج مع الشيعة .
ومع مرور الزمن تناسى الناس قضية الخلاف السياسي ،وانشغلوا بما تولد عنه من خلاف عقدي أصبح هو السبب في إضرام نيران حروب طائفية طاحنة أودت بحياة ضحايا لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وحده ، ولا زالت نيرانها مشتعلة ، ولا يعلم إلا الله تعالى وحده متى ستخمد .
ولقد توسعت دائرة الخلاف السياسي بين المسلمين في هذا العصر بسبب ما طرأ على حياة الأمة من أمور بسبب طبيعة احتكاكها وعلاقتها بالدول الغربية التي لا زالت تقود ما يسمى بالحروب الصليبية معها بصيغ جديدة لا زال عامل الدين يحركها وإن بدا باهتا ، ولكنه في الحقيقة لا زال يفعل فعله في الصراع بين أمة الهلال وأمة الصليب ، وهو صراع لا نهاية له إلى قيام الساعة .
ومع إضافة الصراع التاريخي الموروث بين المسلمين إلى صراعهم التاريخي مع الصليبيين تأزم وضعهم ، وصارت أزمتهم السياسة معضلة بعد زوال الخلافة وتفتيت المحتل الصليبي تركتها خلال القرنيين الماضيين إلى دويلات يحكمها منطق القوميات ، إضافة إلى استنباته كيانا يهوديا في قلب الوطن العربي ، وهو كيان لم يكن له وجود عبر التاريخ ، وقد صار عاملا خطيرا يذكي الحروب الدائرة في هذا الوطن ويمدها بالوقود ، وكلما أطفأها الله عز وجل أججها وهو مختص في إضرامها .
وعلى غرار الخلاف السياسي الذي عرفته الأمة منذ فترة الخلافة الراشدة ، نشأت خلافات ساسية متعددة ومتناسلة فوق رقع أرض الخلافة الزائلة ، وكان سبب هذه الخلافات التي تأخذ في الغالب طابع صراعات ساخنة طبيعة العلاقة مع العالم الصليبي المعروف اليوم بالغربي ، وهي علاقة تأخذ إما شكل خضوع وتبعية له يموه عليها بالتحالف عن طريق إبرام معاهدات أو اتفاقيات ، وإما شكل صدام معه . ولقد صنف الغرب أنظمة الأمة إلى أصدقاء وأعداء ، واعتمد سياسة خلق التوترات بينها مستغلا صراعاتها السياسية والعقدية الموروثة منذ فترة الفتنة الكبرى ، وما راكمته تلك الصراعات من تعقيدات إيديولوجية ، وزاد من تعقيداتها محاكاة أو لنقل فرض نمط الحياة الغربية العلمانية .
ولقد كان الإسلام في كل الأحوال هو من يدفع ثمن الصراعات السياسية حيث يحاول من يتنافسون السياسة ركوبه واستغلاله وتوظيفه لصالحهم في الصراعات الناشئة بينهم ، وبهذا نشأت فكرة ادعاء الشرعية الدينية لديهم لتبرير سلطتهم أو تسلطهم باسم الدين . ولا يوجد طرف من أطراف هذه الصراعات السياسية لا يدعي أنه باسم الدين يقف الحق إلى جانبه وحده دون غيره مما لا حق له في التحدث باسم الدين أو يدعي الشرعية .
ولما انتقل الغرب الصليبي من سلطة الكنيسة إلى سلطة العلمانية ، فإنه حرص على فرض عقيدته العلمانية على البلاد الإسلامية ، وهي تناصب الإسلام العداء ، وتحاربه بشتى الطرق ، وتتوجس من اقتحامه ثغورها ،الشيء الذي جعلها تستأجر من المحسوبين عليه من يخوض عليه الحرب نيابة عنها ، وهكذا انضاف إلى موروث الصراعات العقدية والفكرية التقليدية داخل البيت الإسلامي صراع جديد بين الإسلام والعلمانية بسبب رغبة هذه الأخيرة تهميشه على مستوى الواقع كما همشت الكنيسة ، وهي لا تسمح منه إلا بممارسة بعض طقوسه ، وترفض رفضا تاما أن تكون له سلطة في الواقع أو أثر في الحياة ، ولا تقبل أن يكون منهاج حياة يغطي كل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، مستأثرا وحدها بهذه الأمورجميعا.
ولقد اعتمدت العلمانية الغربية كأسلوب للتعامل مع الإسلام أسلوب الاستئصال والإقصاء ، وهو أسلوب معروف عبر التاريخ تلجأ إليه كل أطراف بينها صراع يكون سببه خلاف .
ولقد اتخذ الصراع داخل العالم الإسلامي اليوم بين الذين استهوتهم العلمانية الغربية ، وبين الذين لا زالوا يراهنون على الإسلام للتخلص من هيمنتها نفس الأسلوب الذي كان عليه عند الرعيل الأول بعد الفتنة الكبرى حيث كان يحرص كل من حلف بني هاشم وحلف بني أمية على إقصاء بعضهما البعض بسبب خلافهما السياسي المبرر عقديا ، فكان من في حلف بني هاشم يرون أنهم أولى بميراث النبوة ، وهو ما جعلهم يخترعون مفهوم الإمامة ذات العصمة والمنحصرة بالضرورة فيهم دون غيرهم ، بينما كان من في حلف بني أمية يرفضون وينفون تلك الإمامة، ويرون أن ما بعد النبوة لا يمكن إلا أن يكون خلافة كما حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعد كل حلف ترسانته الفقهية الموظفة للإسلام قرآنا وسنة للدفاع عن أطروحة سياسية محضة من أجل إلباسها لباس الشرعية الدينية .
ولهذا تعمد العلمانية المستنبة في العالم الإسلامي على تحقيق أولوياتها التي هي إقصاء الإسلام من بيئته ، وهو إقصاء ممنهج يقوم على تصفية الحساب معه عن طريق دعوة مفادها أنه ليس دين رسالة عالمية ، وأن زمنه قد ولى، وأنه خاص بفترة زمنية عفا عنها الزمن ، وأن ما يناسب هذا الزمان ه العلمانية المعولمة .
ولا يمكن أن نفهم تجاسر العلمانيين داخل العالم الإسلامي على الإسلام واستهدافه أكثر من أي وقت مضى إلا انطلاقا من هذه الخلفية . وهكذا صنّع مفهوم " الإسلام السياسي " في مخابر العلمانية الغربية ، وأمد به العلمانيون المحسوبون على الإسلام لتسويقه على أوسع نطاق بشتى الطرق والأساليب التي لا تخلو من تجن ومكر وخبث.
وما قضية مراجعة الإرث على سبيل المثال سوى إحدى تلك الطرق والأساليب إضافة إلى قضايا حرية الجنس المثلي والرضائي ، وإجهاض ما ينتج عن السفاح ... إلى غير ذلك من القضايا التي تتعارض بسببها وجهتا نظر العلمانية والإسلام .
ومعلوم أن أسلوب الاستئصال والإقصاء الذي تستعمله العلمانية ضد الإسلام عو سلاح ذو حدين إذا وجهت جهة ما أحدهما إلى أخرى كان الحد الأخر موجها إليها يصيب منها ما يصيب مثيله من غيرها ،ولهذا لا بد لمن يلجأ إلى استعمال هذا الأسلوب مع الغير من أن يتوقع مثله .
وخلاصة القول أن تصفية الحسابات السياسية هي التي تقف اليوم وراء حملات التجاسر على الإسلام المسعورة من طرف طوابير خامسة تسخرها العلمانية الغربية لتحقيق المتمثلة في التمكين لنفسها في حمى الإسلام ، وصده وتعطيل شرعه ليفسح المجال لقوانينها الوضعية .
ولن نتوقع من العلمانية الغربية وطوابيرها الخامسة سوى الرفع من وتيرة استهداف الإسلام والتجاسر عليه بشتى الطرق والوسائل في كل فرصة تعن لهم ودون هوادة .
والمنتظر من الأمة الإسلامية أن تراجع حساباتها ، وتتنبه إلى ما تكيده لها العلمانية الغربية من مكائد ، وأن تتجاوز الأساليب الفاشلة الموروثة التي تعاملت بها أجيال خلت لفض خلافاتها السياسية التي كان من المفروض ألا تكون أصلا ما دامت تدين بدين الإسلام الحق غير المشوب بشوائب ما بعد الفتنة الكبرى .
وسوم: العدد 846