السلطان علي دينار سلطان مقاطعة دارفور
ما يجري الآن في دارفور بالسودان، ومحاولة استغلال هذه الأزمة ذريعة للتدخل الأجنبي، شيء يثير الأسى والألم في النفوس، فقد أصبح العالم العربي والإسلامي ساحة مباحة للتدخل الأجنبي، في محاولة لعودة الاستعمار القديم، واستغلال ثروات هذه البلاد ونهبها باسم الحرية والديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان والحرب على الإرهاب!!
وقد برزت لي صورة أحد أبطال دارفور، بمناسبة محاولات العرب الخجولة من أجل اتخاذ موقف موحد لدعم السودان، وتجنب تدخل القوى الأجنبية في شؤونه، وتقديم المساعدات له لحل مشكلة دارفور في الإطار الإقليمي بعيداً عن شبح التدخل الأجنبي، ليتعظ العرب من دروس الماضي.
ووسط هذه الأحداث التي تدعو للأسى والحزن على ما آلت إليه أوضاع عالمنا العربي والإسلامي، تداعت إلى ذهني صورة رجل من دارفور، فرض اسمه على التاريخ، للدور الباسل الذي قام به، وهو يحاول وقف المد الاستعماري في بلاده، وأن يتخذ موقفاً ضد هذا الاستعمار الدخيل، بجانب العالم الإسلامي الذي يتعرض لهجمة شرسة، وهو السلطان علي دينار.
ولكن من هو هذا السلطان؟
وكيف قفز اسمه إلى صفحات التاريخ؟
وكيف كانت نهاية حياته المأساوية؟
وكيف انتقم منه الاستعمار لمواقفه المشرفة وشجاعته النادرة، وتصديه ببطولة منقطعة النظير لأطماع الغزاة؟
ولد علي دينار في قرية (شوية) بدارفور، ولا يوجد تاريخ محدد لولادته، لكن يمكن تقدير تاريخ مولده ما بين عام (1272هـ/1856م) وعام (1287هـ/1870م). أما أبوه فهو (زكريا بن محمد فضل) ولا يوجد شيء عن طفولته أو نشأته أو شبابه، إلا أن أول ظهور له كان في (جمادى الآخرة عام 1306هـ/شباط 1889م) عندما ساند عمه السلطان (أبو الخيرات) في تمرد (أبو جميزة)، ثم هرب مع عمه بعد هزيمة التمرد.
كان (الفور) الذين ينتمي إليهم علي دينار يقيمون جنوب غرب جبل مُرّة بعد سيطرة المهديين على دارفور، وعندما توفي السلطان أبو الخيرات في ظروف غامضة عام (1307 هـ/1890م) كانت الحركة المهدية تسيطر على دارفور وكردفان، فطلب أمير هاتين المنطقتين من علي دينار المثول بين يديه في مقر رئاسته في (الأُبَيْض)، والخضوع لأمير المهدية في (الفاشر) – عاصمة دارفور- (عبد القادر دليل)، إلا أن علي دينار كان قلقاً من هذا اللقاء وآثر أن يُبدي الخضوع للمهدية دون أن يلتقي بأمرائها، غير أن هناك أخباراً تؤكد أنه التقى بخليفة المهدي (عبد الله التعايشي) في عام (1309 هـ/1892م) وبايعه.
وهناك ارتباك ملحوظ في سيرته خلال هذه السنوات الست التي تلت تلك المقابلة، ومن الصعب حمل أي شيء فيها على اليقين التام. ويُقال لم يشترك في معركة (كرري) الفاصلة بين المهدية والإنجليز في (صفر عام1310 هـ/أيلول 1898م) والتي انتهت بهزيمة المهدية، حيث خرج من (أم درمان) خلسة مع 300 من أتباعه قاصداً دارفور.
السيطرة على الحكم في دارفور
كان السودان بعد أن دخله الإسلام مقسماً إلى ثلاث ممالك هي: الفونج، وتقلي والفور (دارفور) واستطاعت مصر عندما دخلت السودان أن توحد هذه الممالك في وحدة سياسية واحدة، وتضيف إليها بعض الأماكن الأخرى في السودان.
قصد "علي دينار" الفاشر عاصمة دارفور التي سيطر عليها في ذلك الوقت شخص يُسمى (أبو كودة) معلنا نفسه سلطاناً عليها بعد انهيار المهدية، وكتب إلى (أبو كودة) شاكرا صنيعه في تخليص دارفور من المهدية، ثم طلب منه التخلي له عن العرش، فانصاع أبو كودة لهذا المطلب بعد تمنع، ودخل علي دينار الفاشر فاتحا لها بدون قتال.
ومن مملكة الفور هذه دارفور خرج إلى الحياة السلطان علي دينار، الذي كرس حياته لنشر الإسلام في منطقة دارفور وغيرها من مناطق السودان.
وقد عزم الرجل أن ينهض ببلاده، في مختلف المجالات في نشر الوعي والثقافة الإسلامية، وأن يقاوم على قدر طاقته القوى الاستعمارية المختلفة التي تحاول أن تمتص القارة الإفريقية، وتنتزع لنفسها خيراتها، وما فيها من معادن وثروات، على حساب شعوبها الغفيرة.
في هذا الوقت ظهرت المهدية، وانتشرت في السودان، وانبهر بها الكثيرون في دارفور، حتى أن سكانها طلبوا من سلطانهم (علي دينار)، أن يبايع المهدي، وأن يذهب إليه بنفسه، ويعلن ولاءه للدعوة المهدية التي انتشرت بسرعة في كل أنحاء السودان، ولكن رجال المهدي، وقد لاحظوا تريث السلطان علي دينار أمام هذه الدعوة، فاتهموه بأنه يشرب الخمر، وقيدوه ووضعوه في غياهب السجن.
وعندما انتهت المهدية، وأصبحت الكلمة العليا للإنجليز فكوا وثاقه، وأطلقوه من سجنه، على أن يعود إلى بلاده حاكماً لها كما كان، بشرط أن يؤدي جزية سنوية للاستعمار الانجليزي، وأن يعمل معه بعض الخبراء الأجانب والمستشارين الأجانب في مملكته دارفور.
ولم يكن أمام الرجل الذي كان سجيناً إلا أن يوافق علي شروط المستعمر، وعاد إلى دارفور، وفي نيته أن يواصل ما كرس نفسه له، وهو العمل على رفعة بلاده، وعلى تحريرها من وصمة الاستعمار، وأخذ يراسل فرنسا حتى تساعده على رسم حدود بلاده، وكان يرفض مقابلة مندوب الحكومة الانجليزية بل حرم إقامة الأجانب في بلاده.
ولم يغفل الاستعمار الانجليزي عن ذلك، فعين الاستعمار لا تنام، وقرر هذا الاستعمار أن يقيد حرية الرجل، وأن يقف ضد طموحاته، وأن يشجع الخارجين عليه من القبائل، وإمداد أعدائه بالسلاح، بل لم يقف بجانبه لصد الفرنسيين عن حدود بلاده!
كان أمله أن يقوم بتكوين دولة إسلامية في أفريقيا، وتكون هذه الدولة بمثابة نقطة ارتكاز وانطلاق ضد قوى الاستعمار المختلفة، وقد أرسل رسالة إلي السلطان في الآستانة واضعاً فيها أحوال المسلمين في دارفور، يقول فيها:
(إن الأجانب قد أحاطوا بالمسلمين من يميننا وشمالنا وورائنا وأمامنا، وحازوا ديار المسلمين كلها، وممالك البعض سلطانها مقتول، والبعض سلطانها مأسور، والبعض سلطانها مقهور، يلعبون بأيديهم كالعصفور ماعدا بلادنا دارفور، قد حفظها الله من ظلمات الكفار، والداعي أنهم حالوا بيننا وبين الحرمين الشريفين اللذين حرسهما الله، ومنحكم خدمتهما ولم نر حيلة نتوسل بها لأداء الفرض الذي فرضه الله علينا من حج بيته الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام).
ويقول في هذه الرسالة أيضا: (انجبرنا على مواصلة دولة الانجليز، وصرنا نعاملهم تارة بالمشاحنة معهم، وتارة في حفظ إيماننا وإسلامنا في بلادنا).
وعرفت تركيا أن السلطان علي دينار في صفها، وأنه متعاطف معها ضد أعدائها، مما يجعل (أنور باشا) يكتب إليه رسالة في 3 تشرين الثاني من عام 1915م، يذكره فيها بالاعتداء على بلد الخلافة من قبل روسيا وانجلترا وفرنسا، وأن الخليفة قد أعلن الجهاد المقدس، ضد المعتدين، ومن هنا أصبح الجهاد فرضا على كل المسلمين.
وقال له: بأنه سيرسل مندوبا من تركيا هو (جعفر بك) وأنه سيرسل حملة لإنقاذ مصر، وأن النصر سيكون حليفه وحليف أصدقائه الألمان.
وقطع الرجل علاقاته بالدول المعتدية على تركيا وقرر الوقوف بجانب تركيا، ومايترتب على ذلك من مسؤوليات.
يقول الدكتور عبده بدوي في دراسته عن السلطان علي دينار:
)لقد كان السلطان عازماً على السير شرقا لوضع السودان جميعا تحت سيطرته، وتخليصه من الحكم القائم، ولكن الإنجليزي ما يكادون يحسون بهذا حتى يرسلوا إليه حملة بقيادة (كلي باشا) ويثيرون عليه رجال الدين في الخرطوم، ويطلبون منهم الكتابة إليه في هذا الشأن فيسارعون بطلب دخوله في طاعة الحكومة. ولكنه كان مصمماً على تسوية جميع خلافاته مع الانجليز.
ولكن حماسه هذا لم يستطع الوقوف أمام الأسلحة الحديثة التي اسقطت رجاله من حوله في موقعة (برنجيه) عام 1916م، ثم أطلقت وراءه (هدلستون بك) مطارداً حتى لقي ربه برصاصة في 6 من تشرين الثاني عام 1916م).
وكان أن أعلن ضم دارفور إلى السودان بعد ثمانية عشر عام من فتح كتشنر للسودان!
ورغم أن السلطان أديب وشاعر كما وضح في كتابه (ديوان المديح في مدح النبي المليح) فإنه يعتبر الرجل القوي الذي وقف في إصرار إلى جانب تركيا، رغم أن بلاده كانت (جزيرة صغيرة) محاطة بالإنجليز والفرنسيين، متأثراً في كل خطوة خطاها بالدفاع عن الإسلام في أفريقية ضد كل الدخلاء.
هذه صورة سريعة عن بطل من أبطال أفريقية، والذي وقف ضد الاستعمار الانجليزي، وضد التدخل في شؤون العالم العربي والإسلامي، والذي انتهت حياته برصاصة من رصاص الاستعمار الإنجليزي، أودت بحياته، ولكن ظلت سيرته نور هداية لكل من يريد رفض الذل والهوان والاستعمار.
ترى هل تنجح قوى البغي والطغيان الآن أن تتخذ من (دارفور) موطن هذا المناضل وسيلة لعودة الاستعمار من جديد إلى هذه البلاد؟
خاصة أنها تتذرع بمختلف الذرائع لتجد وسيلة لتحقيق أهدافها، والوثوب من جديد على السودان، ونهب ثرواته الدفينة في أرضه، وثرواته الظاهرة فوق أرضه!؟
وسوم: العدد 847