ابن حزم الأندلسي: تقاطعات المثقف والسلطة
4
ليس من الدقيق القول إن ابن حزم (994 – 1064) كان رجلاً من عامة الناس، كما أنه لن يكون صحيحاً كذلك أن نصفه بجزء من السلطة في عصره، رغم أن والده كان وزيراً ورغم عمله هو نفسه وزيراً لفترة قصيرة.
الحقيقة هي أن ابن حزم كان ينتمي لأسرة أندلسية نبيلة، حظيت بقدر من الثروة ومن الاقتراب من السلطة. كان ابن حزم يمثل حلقة وصل بين عالمين: عالم العامة الذين خبر حياتهم ومشكلاتهم وتحدياتهم، وعالم الصفوة من رجال المال والحكم والسياسة، الذين استفاد بشكل لا يخفى، على الأقل في الفترة الأولى من حياته، من اقترابه منهم وانتمائه إليهم. كثير ممن يحصلون على بعض العلم والاطلاع، يجدون أنفسهم في هذه المنزلة بين المنزلتين، ما يخلّف أحياناً بعض التنازع بين الانحياز إلى عالم الأفكار، والتمسك بذلك الاقتراب البرّاق من طبقة الحكم.
بالنسبة للغالب من الناس فإن التنازع محسوم، والتنازل عن تلك الامتيازات الموروثة يعد أمراً مستبعداً، لهذا تجدهم يفضلون حالة السكون، أو حالة الحركة مع التيار، فيكتبون ما لا يثير المشاكل ويتحدثون، إن تحدثوا، في ما لا يغضب أحداً ولا يثير حفيظة أحد، لكن قلة قليلة من الناس يصعب عليها ذلك، بل يصعب عليها حتى البحث عن تسويات دبلوماسية، تجعلهم يحافظون على مكانتهم الاجتماعية، في الوقت ذاته الذي يقومون فيه بالتعبير عن آرائهم واعتراضاتهم بشكل لطيف وسائغ. كان ابن حزم من ذلك النوع المجاهر بآرائه، رغم علمه بالتكلفة الباهظة التي قد يدفعها مقابلاً لذلك الجهر، وتلك اللغة التي كثيراً ما كانت توصف بالحاسمة كسيف الحجاج.
هناك الكثير ممن تناولوا شخصية ابن حزم، التي تعد حتى الآن شخصية مثيرة للجدل والنقاش، لكن هذا الجانب المتعلق بالتقاطعات بين ما هو سياسي وثقافي ما يزال يحتاج للبحث والتدقيق، فقد انشغل الدارسون كثيراً بابن حزم الفقيه أو الفيلسوف والمجادل، صاحب المذهب الظاهري الذي يدعو لتفسير النصوص الدينية بشكل بسيط، وبحسب ما يظهر في معناها. انشغل كثيرون بذلك ما بين مفنّد وداعم وشارح، في حين انشغل آخرون بالجانب الرومانسي في شخصية ابن حزم الشاعر المبدع مؤلف الكتاب الرائد في موضوعات الحب والعلاقة الجنسية «طوق الحمامة».
لكن ابن حزم الذي قام بوضع ثمانين ألف ورقة في شتى العلوم، كان أكثر من ذلك، حيث كان عالماً في الاجتماع ومنظراً سياسياً، والأهم: كان باحثاً تاريخياً لا يشق له غبار، لدرجة اعتماد الأوروبيين على ما وضع من كتب حول تاريخ الحضارة والأديان حتى يومنا هذا. ابن حزم الذي عانى كثيراً من الظلم والتهميش ما يزال، لدهشة رافضيه، مقروءاً ومعاصراً، وما يزال عند كثير من العلماء الذين تطهرت قلوبهم من الغل والانغلاق، محل احترام، وإن اختلفوا مع بعض آرائه الفقهية التي بدت لهم شاذة أو غير مقبولة. ذلك كان رأي كثير من العلماء الثقات على مر العصور، فها هو الإمام الذهبي صاحب «تذكرة الحفاظ» يقول عنه بشكل متوازن: «ابن حزم رجل من العلماء الكبار. فيه أدوات الاجتهاد كاملة، تقع منه المسائل المحررة والمسائل الواهية، كما يقع لغيره، وكل أحد يؤخذ من رأيه ويرد إلا رسول الله». أما في محل ميلاده، الأندلس، فما يزال تمثاله يزين ساحة غرناطة معبراً عن فخر الإسبان بانتمائه إليهم، حتى بلغ ببعض كتابهم أن يقول إن عبقرية هذا الرجل إنما تعود لجذوره الإسبانية وليس لأصله العربي.
سيرة ابن حزم هي سيرة البحث عن التوازن الاجتماعي المفقود، بين الانفتاح على الآخر مع الاحتفاظ بالقيم والهوية الدينية والثقافية
تخبرنا سيرة ابن حزم أنه تلقى العلم على أيدي معلمين ومعلمات من النساء وتخبر هذه الحقيقة عن مدى الانفتاح الذي تمتع به المجتمع الإسلامي في الأندلس، وفي حاضرته غرناطة التي كانت تفوق في تطورها العلمي والحضاري ما سواها من مدن وحواضر أوروبية أخرى. لا شك بأن هذه التربية الخاصة وذلك المجتمع المختلط بين الأجناس والثقافات، كان أحد أسباب تكون تلك الشخصية الفريدة، التي لم تلبث أن اهتمت بالأديان فألفت «فصلاً في الملل والأهواء والنحل» وردوداً على اليهود والنصارى. هذه الثقافة الواسعة وذلك الاهتمام بسنن التاريخ، ولّدا لدى ابن حزم إحساساً لا ينازعه شك بأن الحضارة الأندلسية التي امتدت لقرون، هي الآن في طريقها إلى الذبول. كانت كلمات ابن حزم ورؤياه تبدو مستبعدة، فرغم انهيار الخلافة الأموية بقرطبة، ورغم بدء عصر الطوائف والانقسامات، كان يبدو للكثيرين أن الحديث عن الزوال التام لسلطة المسلمين على بلاد الأندلس يبدو أمراً شديد التشاؤم.
ظل ابن حزم يعبر عن آرائه منتقداً طريقة إدارة المقاطعات الأندلسية وتولية عدد من غير المسلمين لشؤون البلاد، في ظل سياسة الانفتاح والتقرب للممالك الأوروبية التي كان الحكام يدفعون لها الإتاوات، راجين أن تمد يدها بالدعم والمساندة، في حالة الاحتياج إليها. انتقد ابن حزم كذلك تزايد الاستهزاء بالدين وبالشعائر الإسلامية وتسهيل الأمراء للفجور، في الوقت الذي يزدرون فيه العلم النافع ويضيقون على أصحابه. أشار ابن حزم في كتبه ورسائله، وخاصة «رسالة التلخيص لوجوه التخليص» بأصبع الاتهام ليس فقط للطبقة الحاكمة، التي وصل بها الأمر لتسليم الحصون للروم بدون قتال، ولكن أيضاً لعلماء الدين الذين باعوا دينهم في مقابل مغانم الدنيا، وهم يزينون لولاتهم كل إجراء ويدافعون عن كل فساد، بل أكثر من ذلك يساهمون في التضييق على المصلحين والناصحين، ومما قاله في هذه الرسالة: «ولا يغرنكم الفسّاق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم».
سيرة ابن حزم هي سيرة البحث عن التوازن الاجتماعي المفقود، بين الانفتاح على الآخر مع الاحتفاظ بالقيم والهوية الدينية والثقافية. ابن حزم صاحب «طوق الحمامة» الذي لم يكن يجد حرجاً في الكتابة والتوثيق للعلاقة بين الجنسين في عهده، والذي تحدث بفخر عن دور المرأة الاجتماعي، وعن تلقيه العلم على يد نساء كان لهن الأثر الأهم في اهتمامه بالشعر وتدربه على الخط، كان ذلك الرجل الذي يمكن وصفه «بالنسوي» في مصطلح اليوم، هو نفسه الرافض لأن تتحول مدينته غرناطة لعاصمة للفجور بحجة التطوير. لم يكن ابن حزم الواعي لأثر العنصرية والطائفية متعصباً للغة أو لعرق، بل لم يكن متعصباً حتى للغة العربية، التي لم يكن يرى أنها تمتلك فضيلة على غيرها لكونها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، مستنداً في رؤيته تلك إلى كون كل رسول قد أتى بلغة قومه ولنزول الكتب المقدسة الأخرى بلغات أهلها.
حاول علماء الأندلس من المتحالفين مع السلطة الحيلولة بين ابن حزم والناس، مستغلين عدم اعترافه بالمذهب المالكي السائد، ووصل بهم الأمر أن ألبوا عليه المعتضد بن عباد حاكم إشبيلية حتى دفعوه لإصدار حكم بحرق جميع كتبه. كان أولئك «العلماء» يظنون أنهم بهذا يوجهون ضربة قوية لغريمهم، فيضيع تراثه ويختفي اسمه، لكن ما ثبت، رغم الخسارة التي لا تعوض، أن الأفكار لا تحترق وهو ما عبر عنه ابن حزم في قصيدة شهيرة منها قوله: «فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي/ تضمنه القرطاس بل هو في صدري».
وسوم: العدد 850