وأولئك هم المفلحون...
أمتنا العظيمة ، أمة القرآن الكريم ، أمة السُّنَّة المباركة ، أمة الصحوة بعد الغفلة والغفوة ، أي أمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تعيش اليوم في الميادين ، ميادين العودة إلى الله ، ميادين استنشاق أرج أيام الرعيل الأول من جيل النبوة ، ميادين : إني لأشم ريحَ الجنة من وراء أُحد ... أمة القرآن العظيم في ميادين الاستجابة لله ، أمة العزة التي تعيش على موائد فطرتها الربانية ، لم ترض بديلا بغير مناهج هذه الفطرة النقية التي تجمع سواد شعوبها ، فامتلأت بهم اليوم ميادين التغيير والتجديد ، وعاد الإسلام كما بدأ أيام عهد النبوة ، عاد اليوم ليواجه أهلُه الأبرارُ وشبابُه الأطهار كلَّ أنواع الحقد والكيد والتآمر الخسيس ، وكل أنواع الحروب القذرة ، وتلك سُنَّة الله في هذه الحياة الدنيا ، لابد للفئة المؤمنة من أبناء هذه الأمة وهي تواجه الطغاة الجناة الذين كذَّبوا رسلَ الله ، وحاربوا شريعة الله من النكال والانتقام ، ومن القتل والسجن ، ولكن الله عزَّ وجلَّ لن يجعل العاقبة إلا لأهل هذا الدين القويم ، وصفحات التاريخ القديم والحديث تنبئُنا عن مصير المكذبين أعداء الله : ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين ) 137 / آل عمران ، ومشاهد مصارع الظالمين وأخبارهم تشد من أسْرِ المؤمنين الصابرين المرابطين ، وتعزِّي مَن أُصيبوا بالرزايا ، وتخفف من آلام الذين استُشهد من أبنائهم وبناتهم ، ففي ذلك : ( هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) 140 / آل عمران ، إنه الابتلاء والتمحيص للفئة المؤمنة المجاهدة المرابطة ، وإنه التكريم الرباني للشهداء الذين اختارهم الله لفردوسه الأعلى ، وإنه النصر المؤزر لأهل الصبر وجنود المصابرة ، فإن الله تبارك وتعالى لايحب الظالمين ، ونهايتهم التبار والهلاك : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران ، فذا الدين باقٍ ولن يزول أبدا ، مهما تآمر أعداؤُه ، وكثر الحاقدون على أهله ، ولن تسقط رايته الكريمةُ
الخفاقة مهما كانت التحولات ومهما اشتدت المؤامرات ، فالأمة لن ترضى بأي وقود يحرك أسباب نهضتها وصحوتها غير روح الإسلام ، لقد داست الأمة اليوم على الحزبية والطائفية والعلمانية ، ولقد نبذت كل أنواع التدخل المشبوه من دول الاستكبار العالمية ، ونأت عن المفاهيم الغامضة لتفسير ماتصدره تلك الدول من ألفاظ إفرنجية أو عبارات ماسونية ، من تزييف للشعارات كحقوق الإنسان وحقوق المرأة ، وبرامج مهادنة ومصالحة تبعث على الريب المشوب بالمكر والتضليل ، ومن تقليعات شيطانية ، ومن نظم تأباها مشاعر الأمة المسلمة ، وتأنفها قيمُها النبيلة السامية . إن ماجاءت به حضارة الشر في العصر الحديث إنما هو حرب صارخة على الفطرة الإلهية التي فطر اللهُ الناسَ عليها ، وعلى الإسلام بشكل أدق ، ولا يمكن لبض الأوجه الحضارية التي أسعدت الناس أن تغطي على الطوفان الكبير القادم من أهل تلك الحضارة البائسة ، ذلك الطوفان الذي أفقد البشرية أمنها وصلتها ببارئها ربِّ العالمين . وتبقى الفئة المجاهدة في ميادين المنازلات لاتضعف ولا تستكين ، لأنها تقاتل في سبيل الله ، كما قاتل أصحاب الأنبياء من قبل ، ولن يخذلهم ربُّهم : ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَااسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) 148/ آل عمران . ولم تخش هذه الفئة الأبيَّة من جموع أهل الضلال والفساد رغم ماتملك من قوة وسلطان ، ورغم ما أصابها من أذى ،لأنها استجابت لله وقد دعاها لحمل الدعوة الإسلامية إلى العالمين : (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) آل عمران ، ولقد كفاهم الله شرَّ الظالمين ، وشرَّ الأعداء المتربصين بهم ، ومَن يؤيده الله فلا يمكن لقوة في الأرض أن تغلبه : ( إن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) 160 / آل عمران
وتواجه الأمة اليوم هذا الإعلام الخبيث ، هذا الإعلام بكل وسائله ومناهجه وقد حشد مايملك من خبث عقول جبلها الشيطان ، ومن زخم تضليل أثَّر ولو بشكل جزئي على بعض الناس ، وكثرة النخب المترهلة ، التي تستأجرها الفضائيات اللعينة لبث السموم والمغالطات ، وتسويق الأكاذيب ... فأفكار ضالة مضللة ، وأخبار ملؤُها الريبة عن أحداث مختَلَقَةٍ تُنبئ عمَّـا عمَّا يُحاك لهذه الأمة من دسائس ومكائد ، هذا الإعلام يدعو إلى جاهلية الشهوات الحيوانية ، والفلسفات الإلحادية ، ويحارب منهاج النبوة الذي يدعو إلى السمو الإنساني بمعاني ومرامي : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) . إنَّ هذا الإعلام يهدف إلى عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ، ويعمل بخبث على بث أسباب الخلاف والبغضاء بين المسلمين ، ويسعى بكل ما أُوتي من بهرج ولؤم ودعم على حجب أنوار الاعتصام بحبل الله ، وإنه جزء من المؤامرة الكبرى على مكانة هذه الأمة ، وهو الترتيب الدنيء لصياغة رمزية جديدة تغطي على فطرة الأمة ، وتمحو مكانة الإسلام الراسخة في ضمائر أبنائها ... إن الباطل مفضوح وحبله قصير ، وسرعان ماينقطع كلما اقترب من ظل اليقين الأبدي الذي تعيشه الأمة مستجيبةً لنداء ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم ودينها الإسلامي الحنيف على مر العصور . فلقد سقط الطغاة والمجرمون الذين حاولوا إذلال الأمة وإبعادها عن ربها ونبيِّها صلى الله عليه وسلم ودينها القويم ، وسقطت راياتهم الآثمة ، وهرع الناس خلف قادة الأمة من الأبرار الذين أرادوا للأمة العزة والكرامة والعيش الرغيد . وسقط طابور الخيانة الذي أساء وما زال يسيء لمسيرة الحق والقوة والكرامة ، هذا الطابور الذي لادين له ولا مآثر يمكن أن تنتظرها الأمة ، وإنما همُّه المناصب الزائلة والمال الحرام والشهوات الحيوانية ، ولذلك لم يحظ بتعاطف أبناء الأمة ولم يجد له نصيرا غير المغامرين الذين ربَّتهم أيادي الأفلام البولسيسة ، وأعطتهم الرخص للقتل والإجرام .
إن أسباب الفلاح للأمة ليست ببعيدة عنها ، فالأمة قريبة من الله ، قريبة من هَدْيِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، والأمة تعود ــ اليوم ــ إلى الله سبحانه وتعالى ، ولن يخذلها ربُّها ، ولعلها تعود إلى المعين الزاخر الدفَّاق من إرشاده صلى الله عليه وسلم ، لتبتعد عن الأهواء الدنيوية ، ولتقف عند الهدى ، ولن تجتمع على ضلالة أبدا كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم ، وهي الأمة المؤهلة لحمل هذا الشرف الرفيع ، وهي تعي أسرار وصايا نبيِّها صلى الله عليه وسلم يوم قال : ( بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ) وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ ـ أَوْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ ـ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ) ، فَقَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ). ومن أبواب فلاح هذه الأمة بعدُها عما يروِّجه اليهود والنصارى والمنافقون في إعلامهم الخبيث من أفكار ومذاهب ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم : (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ( فَمَنْ؟ ).رواه البخاري . ومن أسباب الفلاح وحدة المسلمين في ظلال المودة والإخاء والتكافل ‘ فقد جاء في الأثر عن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح مناكبهم في الصلاة وهو يقول : ( اسْتَوُوا وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الأَحْلامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يلونهم ) وفي الحديث : (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ). فرسالة الفلاح دعوة إلى الترفع عن الدنيا ومتاعها الزائل ، وإلى السمو بالنفس لتكون لله في أعمالها وطاعاتها وفي سلمها وحربها ، عَنْ أَبِي عُقْبَةَ، وَكَانَ مَوْلَى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا، فَضَرَبْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُلْتُ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلامُ الْفَارِسِيُّ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فَقَالَ: (فَهَلاَّ قُلْتَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلامُ الأَنْصَارِيُّ) رواه أبو داود .
هذه القيم الربانية الأثيرة نبع متدفق على قلوب أبناء الأمة ، ولن ينضب هذا العطاء الثَّر ، وبه تعيد الأمة ماضيها المجيد ، من خلال المعايشة لهذه القيم ، ومن خلال التفاعل الواعي مع توهُّج حضوره ، ليسهم في عودة الإسلام كما بدأ بإذن الله ، ويقدم لهذا الجيل مايحدو مسيرته التي ماعادت ترضى إلا بالإسلام . ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) 85/ آل عمران ، فالفلاح صنو هذه الأمة ــ إن شاء الله ــ وإن ماتلاقيه اليوم من ظلم الطغاة الجناة إنما هو التمحيص الذي تظهر دونه أحوال الرجال ، وتشرق في جنباته أنوار البشريات الغيبية ، يقول الله عزَّ وجلَّ : ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) 179 / آل عمران .
وسوم: العدد 851