غزّة تهدي سلامها لحقوق الإنسان
أحيت الإنسانية في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول يوم حقوق الإنسان العالمي، وهي مجموعة قوانين تشعرنا بكثير من الاعتزاز بها وبمن صاغها، لأنها قفزة نوعية حققها الإنسان مبتعداً فيها عن الوحوش الضارية في الفيافي والغابات.
بهذه المناسبة الإنسانية العظيمة أقف متأملا في حال أولئك المحاصرين في قطاع غزة منذ أعوام. ما أن تنطلق الغارات من أحدث وأشد الطائرات أذى في العالم عليهم، حتى يبدأ العرب بسجع من طراز، غزة العزّة، غزة كرامة الأمة، بل ما تبقى من كرامة الأمة، وصور جرحى وشهداء ودموع ، ودعاء مكثّف لغزة. ويا نار كوني برداً وسلاما على غزة.
مع الاحترام للدعاء، فهو لا يعالج مريضاً ولا يشبع جائعاً، ولا يحمي أسرة من ذل الحاجة، ولا يأوي أسرة هُدم بيتها. غزة فيها عشرات آلاف الخريجين بلا عمل، حتى يئس كثيرون من التعلم، فلماذا التعلّم ما دامت الشهادة الجامعية لن تؤدي إلى نتيجة مختلفة عن الواقع المعاش. غزة فيها مرضى، أقصى طموحهم الحصول على تصاريح للخروج إلى العلاج في القدس، أو الضفة الغربية أو في إسرائيل، هذا يعني أن كثيرين منهم مرضى ولا يتلقون علاجاً، وإذا تلقوه، فقد يكون بعد فوات الأوان، وكثيرون يوعدون ويحصلون على دور، ولكن في اللحظات الأخيرة يصلهم رفضٌ. مياه الشرب في قطاع غزة مرتفعة الملوحة، وتؤدي إلى نسبة عالية من الفشل الكلوي بين السكان، وبالتالي إلى غسيل للكلى، وأجهزة الدياليزا شغّالة على مدار 24 ساعة في اليوم. المياه المالحة أدت إلى جفاف أشجار الحمضيات، وصار الناس يقتلعونها أولا بسبب امتداد الحاجة للبناء، وثانيا ليزرعوا مكانها الزيتون الذي يحتاج ماءً أقل بكثير ويتحمل الملوحة، ثم أن زيته وحبّه قد يفيد كاحتياطي غذائي. قطاع غزة أبو الحمضيات صار يستوردها من دولة الحِصار.
يدرك الناس أن المقاومة في غزة لن تتنازل عن سلاحها تحت أي ظرف كان، لإدراكها بأنها لن تحصل على مقابل
في غزة أكبر اكتظاظ سكاني في العالم، والأرض الزراعية والخضراء في تراجع يومي، وهي أصلا قليلة وداخل المدن والمخيمات باتت شبه معدومة، والهواء ملوّث، والمتنفس الوحيد وهو البحر ملوث بشكل عام، إذ يعيش أكثر من مليوني إنسان على مساحة 360 كيلومترا مربعا، وهذا الاكتظاظ ينعكس على السكن، وعلى المؤسسات التعليمية شديدة الاكتظاظ، والاضطرار للتعليم في ورديتين صباحية ومسائية، يرافق هذا عدم انتظام في تزويد الكهرباء. يتذمر البعض ويتهم سلطة حماس بالمسؤولية عن ما آلت إليه أوضاعهم، ولكن فيهم من يقول إننا ندفع ثمن صمودنا، ولأننا أحرار حاصرونا، ولا يريدون لتجربتنا أن تتكرر. هناك من يحرّض الناس على سلطة غزة، وبالمقابل هناك من يتساءل هل من يحرّض فعلا يريد الخير لشعب غزة؟ أم يريدها حرباً أهلية لا تبقي ولا تذر؟ ثم هل يستطيع الناس مواجهة تنظيمات مسلّحة ومنظّمة؟ إضافة إلى هذا، فلدى الناس قناعة مفروغ منها، بأن سبب مأساتهم هو الاحتلال، الذي كان آخر إبداعاته هذا الحصار الإجرامي الطويل.
يحلم أهل القطاع بالعمل في إسرائيل، إذا سُمح لهم في ذلك، من دون أن ينتقص هذا من مشاعرهم الوطنية، لأن الإنسان يسعى أولا كي يحيا ويعيل أسرته، وهذا حق شرعي له، فغزة تعاني من بطالة مرتفعة جداً، وتصل إلى أكثر من 52%، وحتى من يعمل فأجره زهيد، وهو أقرب إلى مخصّصات البطالة، وبالكاد يسد الرَّمَق. لم ير الناس في غزة نموذجاً سياسياً ناجحاً في سلطة رام الله كي يقلدوه، أو يحاولوا تقليده، فهي لم تحقق حتى الحد الأدنى من الحقوق الوطنية، والمزاودات في إسرائيل متواصلة لضم الأغوار، وطرد سكان الخان الأحمر والتوسع الاستيطاني ومصادرة الأرض والهدم لا يتوقف. حق العودة يعني لُبّ القضية عند معظم أهالي قطاع غزة، لأنهم بمعظمهم من أبناء وأحفاد المُهجّرين، وهذا الحق جرت تقويته، وتجدّد العهد به لدى الأجيال الصاعدة ممن ولدوا بعد أوسلو، وذلك من خلال مسيرات العودة على الشريط الحدودي. أهالي قطاع غزة يدركون بأن قادة التنظيمات محاصرون مثلهم، وهم معرّضون للقتل والاستشهاد بين فترة وأخرى، رغم أن هذه الإدارة لا تخلو من فساد. الناس يدركون أن ما يجري من تفاهمات مع إسرائيل بوساطة مصرية، ليس سوى محاولة للبقاء والمشي بين النقاط، كذلك يدركون أن المقاومة في غزة لن تتنازل عن سلاحها تحت أي ظرف كان، لإدراكها بأنها لن تحصل على مقابل، وقد تتعرض إلى عمليات اغتيال وسجن طويل الأمد، كما جرى بعد اتفاقات أوسلو لكثير من القادة والكوادر من الفصائل كافّة.
هناك من يهددون باحتلال قطاع غزة من جديد مهما كلف الأمر، وينتظرون الفرصة، إلا أن ما يشغلهم هو كم سيكلف احتلال القطاع من خسائر بشرية للجيش الإسرائيلي، ثم ماذا بعد احتلال القطاع؟ من الذي سيتولى الإدارة هناك؟ هل يعني هذا إعادة القطاع والضفة تحت قيادة موحدة؟ وهل هذا يفيد أم يضرُّ في إدارة الصراع مع الفلسطينيين؟ وهل يُفضّل إبقاء هذه الحالة لأمد طويل؟ ولكن إلى متى؟ وما هو الحل في نهاية الأمر؟ فالوضع يزداد تردّيا وسوءا يوماً بعد يوم.
الشعب في قطاع غزة بات رهينة بأيد كثيرة، أولا بيد الاحتلال الذي يحاصره براً وبحراً وجواً، ويلوّث هواءه وماءه وترابه، ويتحكم بكل مادة تدخل إلى القطاع من أي صنف كانت. وهو رهينة بيد سلطتين في غزة ورام الله غير قادرتين على التوصل إلى تفاهمات ومصالحة. إذن على من تقع مسؤولية حماية أهل قطاع غزة؟ أهل القطاع يهدون سلامهم للمحتفين بيوم حقوق الإنسان ويناشدونهم بأن يضعوا معاناتهم على جدول أعمالهم، وأن لا ينتظروا حملة عسكرية أخرى كي يستنكروها ويطالبوهم بفك الحصار، شعب فلسطين كله بحاجة إلى حماية دولية، وخصوصاً أولئك المحاصرين في قطاع غزة.
وسوم: العدد 855