قصةُ لوتاه في صناعة الحياة

* تتوافر في مجتمعاتنا أعداد لا بأس بها ممن يبعثون الحياة في أوصال الناس، ومن يَبثُّون الضياء في عتمات المجتمعات، غير أن تركيز أغلب الناس على صُنّاع الظلام إنما هو أثر من آثار التربية السلبية التي تلقوها في الصغر والتي تجعلهم ينجذبون إلى السلبيات وتعشى أنظارهم أمام مصابيح نشر الضياء، وهذا يساعد على خَلق انطباع بأن الأوضاع قاتمة السواد!

* كنا قد نشرنا بالأمس مقالا تحت عنوان (قصة نجاح) ذكرنا فيه تجربة ناجحة لرجل أقام (مشروع السكن الناجح)، صاحب هذه القصة هو الشيخ سعيد بن أحمد لوتاه الذي ولد في أول يوم من عام ١٩٢٣م، وهو من أسرة إماراتية مشهورة بالتجارة، وقد وفدت الأسرة من الهند ولكن يقال إن أصلها عربي، إذ كانت قد هاجرت من سلطنة عمان إلى الهند قبل قرون ثم عادت إلى الساحل العربي من الخليج العربي.

* ولأننا في مقام الحديث عن عمل منتج وجهد تغييري تميّز في صناعة الحياة، فلا يهمنا أصل هذا الرجل، وما يهمنا هو أنه تربى في أسرة مسلمة تهتم بالعمل الجاد، ولذلك فإنه لم يتعلم سوى القراءة والكتابة خلال ٤ أشهر ونصف من طفولته المبكرة، ثم انطلق مع والده للعمل في صيد اللؤلؤ وبيعه، وبجهده الذاتي وعزيمته القوية تعلم أشياء كثيرة حتى صار خبيرا اقتصاديا وتربويا وأتقن اللغتين الفارسية والأردية بجانب اللغة العربية الأم.

* حباه الله بمواهب ومهارات متعددة، وسرعان ما استثمرها بصورة عملية في أعماله الدائبة ومشاريعه المتعددة، وكانت البداية سنة ١٩٥٦م حينما أسس أول شركة مقاولات في الإمارات، ومنذ ذلك الوقت ترقى في عالم المال بسرعة حتى دخل عالم الثراء بصورة مبكرة ليصير أحد أثرياء الإمارات العربية المتحدة.

* وكانت ثقافته العملية تنهل مددها من القرآن الكريم عبر تأملات ذكية، وقد توقف كثيرا أمام قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كَبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}، وعبْر قنطرة التدبر عبَر الرجل من ضفة الشعارات إلى مرفأ المشاريع، حيث سعى بقوة لترجمة الإيمان القلبي إلى أعمال صالحة تعمر الأرض وتصنع الحياة للناس، حتى أنه جعل هذه الآية شعارا له في حياته، ولذا فقد اتسمت حياته بالعملية الشديدة والبعد عن التنظير، رغم أنه ألّف في مسيرته الحياتية قرابة أربعين كتابا، وقد اتضحت هذه العملية حتى في كتاباته التي تعمد إلى البساطة والمباشرة.

* انطلقت أعماله التغييرية من رؤية فلسفية كلية تعتبر الإسلام منهج حياة كاملة في كافة شؤون الدنيا؛ ولذلك فقد سعى إلى وضع بذوره التغييرية في عرصات شُعَب الإيمان كافة، حيث انتقل من الصلاح الفردي إلى الإسهام الفعلي في الإصلاح الاجتماعي، وعبر عقود من النضال المستمر كانت له بصمات متميزة في هذا المضمار.

* ومثل كل عمل فقد كانت البداية متواضعة، حيث قام في ١٩٧٢م مع زملاء له بتأسيس أول جمعية تعاونية في بلاده لتوفير الأغذية الحلال، وفي ١٩٧٥م قام مع آخرين بتأسيس بنك دبي الإسلامي الذي يقال إنه أول مصرف في العالم يعمل بالنظام الإسلامي، هذا بجانب المضي بمجموعته التجارية التي سماها باسمه واسم أولاده؛ حتى أصبحت من أعرق المجموعات التجارية في بلاده.

* وبرزت فلسفته المتميزة بشكل خاص في مضمار التربية والتعليم، حينما أسس سنة ١٩٨٢ المدرسة الإسلامية للتربية والتعليم، والتي تقوم على منهج وسُلّم تعليميين يكفلان للطالب الوصول في سن البلوغ (١٥ سنة) إلى مرحلة النضج الذي يؤهله للانطلاق نحو العمل المنتج في حقل من حقول الحياة التي تناسب موهبته الفطرية. واهتم في هذا الإطار بشكل خاص بالأيتام، فقد أسس سنة ١٩٨٢م مؤسسة لتربية الأيتام وتعليمهم منذ سن الخامسة من العمر، بحيث لا تأتي الخامسة عشرة من عمره إلا وقد امتلك المهارات الكافية لممارسة عمل نافع في الحياة بل وأخذ مكانه على ثغر من ثغور العمل والإنتاج.

* أعطى اهتماما خاصا في مشروعه الإصلاحي للنساء، ولذلك فقد أسس كلية دبي الطبية للبنات في ١٩٨٦، وبعدها بست سنوات أسس كلية دبي للصيدلة للبنات. وأبدى اهتماما بالعمل الطبي بصورة عامة، حيث أسس في ١٩٩٢م مركز دبي الطبي التخصصي ومختبرات الأبحاث الطبية، وما فتئ يعمل من أجل معالجة علل الناس المادية والمعنوية.

* ولقد ظل الهَمّ الإنتاجي يؤرقه كثيرا لما يراه من طغيان العطالة وبروز الغثائية ومن انتشار للمعاهد والكليات النظرية؛ ولذلك فقد أسس مركز لوتاه التقني في ٢٠٠٧م، وأسس قبل ذلك عددا من مشاريع (السكن المنتج) في السودان واليمن وسريلانكا والتي تقوم بتأهيل المزارعين وتسليمهم بيوتا ومزارع وحظائر جاهزة للإنتاج، كما أوضحت في منشوري السابق، من خلال المشروع الذي زرته في السودان، والذي فتح عيني على هذه التجربة الرائدة.

* وبعد أن اقترب الشيخ لوتاه من التسعين من عمره، ما زال يدير أعماله التجارية والخيرية بذاكرة وقادة، كما يقول عنه القريبون منه، وما زال يؤلف الكتب ويشارك في الندوات والمؤتمرات الاقتصادية والتربوية والمتصلة بالعمل الخيري، وما زال يتعاون ويعقد الاتفاقيات مع الجهات التي تشاركه هذا الهم من أي زاوية كانت، وما زال يتابع تطوير مشاريعه مع المختصين لديه بشكل يومي، ويشارك في نشر الوعي التنموي من خلال تمويله وإشرافه على قناة (التوازن) التنموية.

* وبالتأكيد فإنني لا أعرف هذا الرجل من قريب أو بعيد، وقد حملتني رياح الأقدار إلى قريته التنموية حيث رأيت واحدة من منجزاته العملية في السودان، فأعجبتني هذه التجربة التي تقترب بقوة من فلسفة الزكاة كما جاءت في القرآن الكريم وكما تجسدت في السنة النبوية وفي السيرة الشريفة؛ مما جعلني أتواصل مع القائمين عليها في السودان وهم من الكوادر اليمنية الفاعلة، وقادني ذلك إلى قراءة بعض الكتب التي ألّفها هذا الرجل، بجانب البحث في الإنترنت؛ لأخرج بهذه الخلاصة التي أرجو أن يستفيد منها فاعلو الخير والقائمون على الجمعيات الخيرية، بحيث يستفيدون من هذه الخبرة في تحويل الفقراء من عاطلين سلبيين إلى مُنتجين إيجابيين، بجانب تجنب  آثار المهانة التي تصيب من يبقون أصحاب أيدٍ سفلى، لا تعرف إلا الأخذ ولا تجيد سوى التسوّل والتوسّل!

وسوم: العدد 855