الضمانات المانعة من استبداد الحاكم (4)
قوة الوازع الديني ضمانة أولية لمنع الاستبداد
وأعني به حضور القيم والمبادئ الإسلامية، وفي المقدمة منها الجانب العقدي والجانب الأخلاقي والجانب التعبدي في داخل المجتمع.
وينبغي أن يكون ذلك حاضرا وقويا على مستوى الأفراد والجماعات، والحكام والمسؤولين. ولا شك أن قوة الوازع الديني من خلال غرس العقيدة الصحيحة تضبط الأفراد فلا يذلوا ولا يركنوا، وتضبط الحكام فلا يستبدوا ولا يتجبروا.
أثر الوزاع الديني على الحاكم:
إن الحاكم الذي يخشى الله ويتقه تحول خشيته وتقواه لربه بينه وبين الاستبداد. إن أمتنا بحاجة إلى حاكم لديه قلب حي، يخاف من الله إذا خوّف به، وينصاع لأمر الله إذا ذكر به.
إن الوازع الديني كفيل بأن يحول بين الحاكم وبين أي تقصير، ويحجزه عن أي بطش، ويصرفه عن أي محاباة. إنه يغرس في نفسه افتقاره الدائم إلى الله، وتوكله المطلق عليه، ورجاءه المتواصل فيه، وطلبه المتصل منه، وحسن ظنه به، وخوفه اللاهب من عقابه. وما أروع عمر حين قال: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا[1]. ولا شك أنه (كلما ضعف الوازع الديني ضعف الإحساس بالمسؤولية، أطلق الحاكم لنفسه العنان إلى ما تهوى، لذلك كان الوازع الديني وما يستتبعه من شعور بخطر المسؤولية خير ضمان للحقوق والحريات ضد نزعات إساءة استعمال السلطة والاستبداد، وخير ترياق ضد نشوة السلطة التي تلعب بالرؤوس كما تلعب بها الخمر[2]).
أثر الوازع الديني على الأفراد:
وأما قوة الوازع الديني على مستوى الأفراد؛ فإن ذلك كفيل بأن يدفع الخوف والذل والخنوع لحاكم مستبد أو أمير متسلط من قلوبهم، ولما لا والقرآن الكريم يمنع مجرد الركون إلى الظالم، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}(هود: 113)، يقول القرطبي: الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب[3]. ويقول صاحب الظلال: لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه. ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير. «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» .. [4].
وقد قال ربنا سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}(النساء: 140)، قال ابن كثير: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: إنكم إذا مثلهم في المأثم[5].
وهذا الوازع الديني هو الذي حمل مؤمن آل فرعون على الجهر بالحق، والقذف بها في وجه فرعون حين استبد واستكبر، فلم يكد يسمع فرعون يصيح في الناس:{ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}(غافر: 26)؛ حتى علا صوته قائلا: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(غافر: 28).
أثر الوازع الديني على البطانة:
وأما أثر الوازع الديني على البطانة؛ فهو الذي يجنبها المشاركة في ظلم الجبابرة ولو بإبداء رأي أو تقديم اقتراح، أو سكوت عن نصرة مظلوم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ[6]"، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:" إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي لَا يَقُولُونَ لِلظَّالِمِ مِنْهُمْ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ[7]".
وروى ابن أبي الدنيا عن سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، أَنَّ مَلَكًا، أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، فِيهَا فُلَانٌ الْعَابِدُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ «أَنْ بِهِ فَابْدَأْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِيَّ سَاعَةً قَطُّ[8].
ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا[9]".
أثر الوزاع الديني المؤسسة العسكرية:
والحق أن المؤسسة العسكرية بدونها لا يقدر المستبد أن يستبد، ولا أن يوطد عرش مملكته، إذ المؤسسة العسكرية للحاكم المستبد: عينه التي بها يتلصص، وأذنه التي بها يتجسس، وذراعه التي بها يبطش، ويده التي بها يضرب ويجلد، وسوطه الذي به يعذب ويذل، وقوته التي بها يقتل ويبطش، ولهذا وصفت ملكة سبأ الملوك بالإفساد ليس بذاتهم وإنما بهذه المؤسسة الباطشة المتجبرة التي لا عقل لها، قال تعالى على لسان ملكة سبأ: { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}(سبأ: 34).
ومن ثم فإنه لم يغب عن الشريعة أن تهذب المؤسسة العسكرية أفراد وقادة، فأمرت –فيما أمرت- بإخلاص النية وإصلاح الطوية، فلا قتال إلا بحسن نية وصدق طلب، فمن فعل ذلك نال الشهادة مهما مات، وفي الصحيح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ[10]"، وفي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَجْرَ لَهُ "، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّهُ لَمْ يَفْهَمْ. فَعَادَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَجْرَ لَهُ "، ثُمَّ عَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَجْرَ لَهُ[11]".
وأُمرت المؤسسة العسكرية كذلك بعدم البطش أو الطيش، وعدم مجاوزة الأوامر، روى البخاري عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ[12].
وروى مسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا[13]".
وأخيرا فالمؤسسة العسكرية ما لم يملأ قلبها الخوف من الله سبحانه، تجبرت وتعالت، وقتلت وسفكت، وجعلت الحاكم ألعوبة في يدها لأنها تريد أن تظل حاكمة آمرة، لا يردعها رادع، ولا يمنعها مانع.
-المراجع-
[1] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 96).
[2] مبادئ نظام الحكم في للإسلام/ عبد الحميد متولي/ ص 273.
[3] تفسير القرطبي (9/ 108).
[4] في ظلال القرآن (4/ 1931).
[5] تفسير ابن كثير (2/ 385).
[6] رواه أحمد في المسند (30) عن أبي بكر، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[7] رواه أحمد في المسند (6776) وقال محققو المسند: إسناده ضعيف.
[8] رواه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ص 105.
[9] رواه البخاري في الشركة (2493) عن النعمان بن بشير.
[10] رواه مسلم في الإمارة (1909).
[11] رواه أحمد في المسند (7900)، وقال مخرِّجوه: حسن لغيره.
[12] رواه البخاري في الجهاد (3014) ومسلم في الجهاد (1744).
[13] رواه مسلم في الجهاد (1731).
وسوم: العدد 865