روسيا في سوريا… رشاقة الدببة
في عام 2008، نشر سيرغي لافروف مقالة بعنوان «روسيا والعالم في القرن الحادي والعشرين»، قال فيها ما يمكن تلخيصه بما يلي: «كانت نهاية الحرب الباردة نهايةً لمرحلة طويلة من التاريخ العالمي، استمرت بين 400- 500 عام، كانت الهيمنة العالمية فيها للحضارة الأوروبية. وكان الغرب التاريخي يقود تلك المرحلة. الآن تصبح المنافسة عالمية بحق، وتأخذ بعداً حضارياً».
هذا البعد الحضاري المذكور كما يبدو، الذي يستبطن القومية من جديد، قد حلّ مكان صراع الشرق والغرب وبعده الأيديولوجي ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. ولعلّ هذا يلخص جوهر التفكير الروسي، في القرن الحادي والعشرين في السياسات الخارجية. لذلك، يبدو من الضروري إعادة وصل السياسات بين القرن الخامس عشر وما تلاه، والسياسات الراهنة، في منطقتنا المشرقية خصوصاً، أو ربما المتوسطية كذلك.
سيطر حلم «استعادة الأراضي الروسية» على السياسة الخارجية منذ القرن الخامس عشر، وكان نجومه الأبرز، إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وكاترين الثانية، هؤلاء الذين يُعتبر بوتين امتداداً لهم، وقد يضيف إليهم أيضاً بتحفظ اسم ستالين، وقد امتدت حروب تلك الأحقاب شرقاً نحو جبال الأورال وما تلاها، وغرباً نحو بولندا وإلحاق بيلاروسيا وجزء من ساحل البلطيق وأكثر من ذلك من الأراضي البولونية خصوصاً، وجنوباً نحو أوكرانيا والقوقاز والقرم وما وراءها إلى الشرق. في الاتجاه الأخير، كان ذلك الميل إلى التوسع الأكثر أهمية باتجاه مياه البحر الأسود الدافئة، حلم القياصرة الأثير.
وتمثل القواعد الروسية على السواحل السورية، تموضعاً في مياهٍ أكثر دفئاً من مياه البحر الأسود، ليصبح وجودها هناك (هنا) أمراً يكاد يكون مفروغاً منه في العلاقات الدولية، بل تبدأ في محاولة التمدد إلى مياه أخرى أكثر دفئاً كذلك، على أرض ليبيا جنوب المتوسط ووسطه.
كان الهدف الأبرز لحروب روسيا هو الأمبراطورية العثمانية، والصراع على الأرض معها، وقضمها بالتدريج، بشكل لم يتوقف ويتراجع نسبياً إلا في عهد أتاتورك، وحروبه التحريرية. هذا يجعل من تاريخ العلاقات الروسية – التركية على مدى عدة قرون سلفت، تاريخاً للحرب والصراع والذاكرة العدائية. ويمكن الانطلاق من ذلك لتبرير ضرورة استبداله بالعلاقات المتكاملة والطبيعية، بمقدار ما يمكن استسهال النزاع والعداء عند أي مفترق أو انتكاسة في العلاقات السلمية.
فلعلّ العامل الأول في الاستراتيجيا الخارجية لروسيا البوتينية حالياً هو الطموح القيصري، الذي يترجمه خصوصاً في شرق المتوسط، ومؤخراً في جنوبه. ويستخدم ذكاءه وبراغماتيته القصوى لتلبيسه لباساً عصرياً، في ما يخص العلاقات مع تركيا. ولكن هنالك عوامل أخرى غير ذلك، قد يمكن اشتقاقها وملاءمتها مع السياسة المذكورة.
من ذلك تلك السياسة الروسية القيصرية القديمة، تحت عنوان حماية الأقليات، خصوصاً حماية طائفة الروم الأورثوذكس، الذين يربطهم بالكنيسة الروسية إيمان واحد، ويشدهم إليها ثقل كون الأورثوذكس الروس نصف تلك الطائفة المسيحية في العالم. ذلك عامل فاعل في الاستراتيجية تجاه كل المشرق، وقد أضافت له مكتسباً جديداً يتقدم حالياً، يتمثل في الدور الروسي في حماية العلويين.. وتكاد تتفوق استراتيجية بوتين ولافروف في ذلك على القياصرة الموتى القدامى. ولكن هنالك عاملاً رئيساً في السياسة الخارجية الروسية يتخلل مواقفها وتبريراتها في المشرق خصوصاً، عنوانه محاربة الإرهاب، وتلك تجارة رائجة ورابحة، قد يكون مصدر الإيحاء بها النظام السوري نفسه، وسياسات الأسد الحالي والأسد أبيه، وكل ما ومن يمتّ إليهما بصلة. وقد كان يتم تحميل تلك السياسة على إرث حرب الشيشان في البداية، ثم توسع ليعمّ ويتعولم محمولاً على عقدة الغرب الكبرى في هذا الميدان. في ذلك تبدو روسيا وقد اختطفت من خصومها سلاحهم، وزادت عليهم من الطنبور أنغاماً وتقاسيم.
في عام 2015، كان بوتين محاصراً عملياً بسبب أوكرانيا، وكان يحتاج إلى فك ذلك الحصار، وخير وسائل الدفاع هي الهجوم، ولا مكان للهجوم أكثر جاهزية من سوريا، وخصوصاً بسبب نضوج ذريعة «الإرهاب» فيها، وهي المقولة الأكثر إحراجاً للغرب.
فقد كانت حركة توحيد قوية في الشمال الغربي بدعم قطري – تركي، نتج عنها تشكيل ما سُمّي بجيش الفتح، الذي ضم إلى جبهة النصرة الموسومة عدداً من التشكيلات الإشكالية بذاتها أيضاً، مثل أحرار الشام وصقور الشام وفيلق الشام وأجناد الشام وغيرها. وافتتح هذا الجيش أعماله بدخول إدلب وطرد قوات النظام منها بسهولة لافتة خلال أربعة أيام، في أواخر مارس/ آذار، تابع بعدها نجاحاته في القلمون والغاب ووصل قاعدة أبو الظهور الجوية في سبتمبر/أيلول.
في الوقت نفسه وبدعم سعودي هذه المرة، قام زهران علوش بتوحيد عشرات القوى المسلحة في غوطة دمشق، وقام بتوجيه صواريخه إلى مدينة دمشق بكثافة، وأكثر من مرة، وتزايد نشاطه حتى هزم قوات النظام وسيطر على حرستا وعدرا وتل الكردي أيضاً، في سبتمبر/أيلول قرب دمشق، مُطبقاً على طريق دمشق السريع شمالاً، أمام حيرة المراقبين وتوقعاتهم بقرب سقوط النظام. فغدا إنقاذ النظام هدفاً مغرياً للروس، ومحاربة الإرهاب شعاراً يمكن الاستناد إليه أمام الآخرين. وتشكلت غرفة عمليات
وابتدأ التدخل الكثيف المعلن في الثلاثين من سبتمبر، بعد أن انتهى التوقيع منذ زمن على اتفاقية استخدام قاعدة حميميم قرب الساحل السوري لمدة غير محددة، وبشكل يعطي حصانة دبلوماسية مشتقة من معاهدة فيينا لأي عسكري روسي؛ ثم ابتدأ الحشد العسكري يتراكم حتى اليوم الموعود، في التقاء لافت للظروف الملائمة مع الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة. فلم تغرِ العملية الروسية كل أصحاب المصلحة بتغيير حساباتهم، بل قادتهم إلى التسليم بالدور الروسي، وتطوير التفويض باستلام الملفّ، هل كسلاً وارتخاءً من قبل القوى الغربية الأساسية، وفواتاً في الأدوات والسياسات إقليمياً، أم توريطاً للروس من دون دفع أي ثمن ثقيل؟
لم يُخفِ القادة الروس على الإطلاق استهدافهم للمعارضة المعتدلة، بسبب تهديدها للنظام، ولا جهدهم من أجل تدمير البنية التحتية، التي تعتمد عليها تلك المعارضة. وقد قال غيراسيموف رئيس الأركان الروسي شيئاً مباشراً في هذا الأمر مثلاً، وأكثر من مرة. واستمرت هذه الجريمة حتى الآن، باستهداف تلك البنية التحتية: المستشفيات والوحدات الصحية والمدارس والأسواق، لتحطيم أي إرادة أو آمال لدى السوريين، في تحرير وإنقاذ بلادهم. إلا أن الأكثر إثارة للاستغراب، هو تلك «الانتظارية» التي استحكمت وما زالت بالمجتمع الدولي، أمام هذا التمدد الخطير لقوى وعوامل الفوضى والخراب، والتضحية بشعب كاملٍ وبلدٍ كامل، وتحمّل الأعباء والآثار الناتجة عن ذلك، من دون أي محاولة جدية لمواجهة أسباب تلك الكارثة، والذهاب إلى الحلّ السياسي بالاعتماد على الأمم المتحدة بشرعيتها وقراراتها ووضوح ملفاتها، من دون تلكؤٍ أكثر مما حدث حتى الآن..
ويمكن أن فلاديمير بوتين، في استلهامه روح وعظمة أسلافه الكبار الثلاثة: إيفان وبطرس وكاترين، قد استقر على تجسيد حديث لخيار القيصر المؤسس إيفان الرهيب الذي جعل سياسته «الأوبريشنينا» في القمع غير المحدود سياسة رسمية للدولة!
وسوم: العدد 866