حسني مبارك وحافظ الأسد: كلا الأخوين طاغية، ولكن…
ثمة قواسم مشتركة تجمع بين حسني مبارك (1928 ـ 2020) وحافظ الأسد (1930 ـ 2000)، قد تبدأ من انتمائهما إلى رهط العسكر العرب المتحدرين من فئات ريفية متواضعة طرأت على القشرة العليا لضباط الجيوش العربية ما بعد الاستعمارية، والتي اقتصرت على أبناء «أشراف» المدن الكبرى أو كبار إقطاعيي الأرياف. مشترَك ثانٍ هو صنف السلاح الذي تخصصا فيه، أي القوى الجوية والطيران، وصعودهما السريع على السلّم القيادي: مبارك تولى قيادة القوات الجوية المصرية، وعُيّن نائبا لوزير الدفاع، في سنة 1972؛ والأسد تمّت ترقيته من رتبة مقدّم إلى رتبة لواء، فتولى قيادة القوى الجوية والدفاع الجوي في سنة 1964، قبل أن يصبح وزيراً للدفاع في سنة 1966.
في المقابل، كلاهما خاض حربين مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، في 1967 و1972، من مواقع قيادية مختلفة؛ فكان إسهام مبارك قد أكسبه صفة «بطل حرب أكتوبر»، عن بعض حقّ وكثير باطل؛ وإسهام الأسد ألصق عليه صفة «بائع الجولان»، عن كثير حقّ في الواقع، بالنظر إلى إعلانه سقوط مدينة القنيطرة، في البيان الشهير رقم 66 يوم 10 حزيران (يونيو) 1967، حتى قبل أن يدخلها جندي إسرائيلي واحد. على جبهة التسويات مع الاحتلال، كان مبارك محض ظلّ لرئيسه أنور السادات، الذي مضى بعيداً إلى درجة زيارة القدس المحتلة وتوقيع اتفاقية كامب دافيد؛ ولكنه، حين تولى رئاسة مصر بعد اغتيال السادات، تمكن من استرداد طابا على رأس خليج العقبة عبر تحكيم دولي. وأمّا الأسد فقد كان الجولان أشدّ أهمية، من نواحٍ جيو ــ سياسية واقتصادية وعسكرية عديدة، من أن يقبل الاحتلال الانسحاب منه، أو حتى فيه، سواء بعد 1967 أو بعد 1972؛ الأمر الذي لم يمنع من توقيع اتفاقية سعسع، التي لم تمنح نظام الأسد صفقة حدّ أدنى تحفظ ماء الوجه.
بيد أنّ القاسم المشترك الأبرز بين مبارك والأسد أنهما حكما 30 سنة متعاقبة، في مصر وسوريا، ونظما انتخابات رئاسية أقرب إلى المهازل المعلنة، وسنّا دساتير لا تتجاوز قيمتها الحبر الذي طُبعت به، ولفقا مجالس شعب ليست أكثر من كرنفالات ولاء مبتذلة ورخيصة… كلّ هذا على خلفية أحكام عرفية واستثنائية، وإدارة نظامين قائمين على الاستبداد والفساد وخنق الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان وتمكين الأجهزة الأمنية من رقاب المواطنين وإعلاء سلطة الجيش، فضلاً عن إفقار المجتمع والاقتصاد ونهب الثروات، مقابل الاعتماد على المساعدات الخارجية والتبعية لقوى إقليمية ودولية شتى. ليس من دون فوارق بين النظامين، بالطبع، بعضها جوهري: رغم صدام مبارك مع جماعة الإخوان المسلمين ومجموعات أخرى متشدد وإرهابية وسلفية، فإنّ سلوك أجهزته لا يُقارَن من حيث الدموية مع مجازر نظام الأسد خلال سنوات 1979، وصولاً إلى ما بعد مجزرة حماة 1982.
وفي أواخر آذار (مارس) 2001، أي بعد أقلّ من سنة على توريث بشار الأسد، كانت الصحافية الأمريكية لالي ويموث، من أسبوعية «نيوزويك»، قد أجرت حواراً مطوّلاً مع مبارك أثناء زيارة قام بها إلى واشنطن. وكان طبيعياً أن تطرح عليه السؤال الدائر في أذهان المصريين، آنذاك: «الجميع يتحدثون عن ابنك جمال كخليفة محتمل لك». وكان جواب مبارك قاطعاً وحادّاً، وغير دبلوماسي، في آن معاً: «نحن لسنا سوريا. ابني لن يكون الرئيس القادم. الرجاء أن تنسوا هذا الموضوع». وبالطبع، أثارت تلك الإجابة دهشة المراقبين لأسباب عديدة؛ أوّلها أنّ جميع الدلائل كانت تشير إلى أنّ جمال مبارك يصعد السلّم السياسي بقوّة، ويتمّ إعداده لمنصب سياسي رفيع لا يمكن أن يكون أقلّ من رئاسة الجمهورية.
وإذا كان مبارك الأب قد سارع إلى القول إنّ مصر ليست سوريا، فلأنّ مظاهر صعود مبارك الابن كانت تذكّر كثيراً بما جرى في سوريا من عمليات إعداد سياسي وأمني للأسد الابن، خلال السنوات القليلة التي سبقت وفاة الأسد الأب. ويتذكّر المراقبون أنّ الأخير لم يصرّح في أيّ يوم بأنّ ابنه بشار، أو حتى بكره باسل، سوف يكون خليفة له، بل حاول مراراً إعطاء الانطباع بالعكس؛ الأمر الذي عنى أنّ نفي مبارك احتمال خلافة ابنه جمال لم يؤخذ على محمل التصديق إلا عند المغفّلين، رغم نبرة الاستبعاد القاطعة التي انطوت عليه.
لهذا، ولأنّ الصحافية الأمريكية ليست في عداد المغفلين أولئك، فقد تابعت إلحاحها وسألت: «ولكنّ الناس يتساءلون عمّن سيكون خليفتك المحتمل»؟ أجاب مبارك: «سوف نحاول العثور على نائب للرئيس. الأمر صعب. وأنا أستعرض بعض الأسماء». وهذه الإجابة أثارت دهشة المراقبين بدورها، لأنّه لو كان مبارك يبحث حقاً عن نائب رئيس قوي ومتمرّس ويحظى بشعبية في الشارع المصري، فإنّ أفضل المرشحين كان آنذاك وزير الخارجية المصري عمرو موسى. لكنّ مبارك اختار موسى لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، الأمر الذي عنى إخراجه بصفة شبه نهائية من الساحة السياسية المصرية، وجعل مسألة اختيار نائب قويّ «صعبة» حقاً كما قال مبارك، إذا لم تكن مستحيلة! في المقابل، لم يكن الأسد الأب يعاني من «صعوبة» مماثلة؛ إذْ بدل النائب الواحد كان لديه ثلاثة، بمَن فيهم شقيقه رفعت؛ الأمر الذي لم يحلْ دون وضعهم على الرفّ، تباعاً، حين أزفت ساعة التوريث.
والإنصاف يقتضي التسجيل بأنّ الشارع الشعبي المصري عبّر عن أشكال احتجاج صريحة ضدّ التوريث، لعلّ أوضحها في تلك الحقبة كانت المظاهرة التي شهدها ميدان الجامعة في القاهرة في نيسان (أبريل) 2002، انطلقت من التضامن مع الشعب الفلسطيني بعد معركة جنين؛ لكنها رفعت شعارات صريحة، جسورة، تعارض احتمال ولاية خامسة، كما تناهض مبدأ التوريث لنجله وخليفته الأرجح جمال مبارك. وإلى جانب مغزاها الخاصّ البليغ في السياق الداخلي المصري، فإنّ تلك المظاهرة كانت تندرج في سلسلة أنشطة احتجاج لا تقلّ شجاعة وقعت في مناسبات سابقة، بينها واحدة خلال معرض القاهرة للكتاب حيث كان يحلو للرئيس المصري تذكير المصريين بأنّ إدارته ثقافية ومثقفة أيضاً!
لم تكن الحال مماثلة في سوريا، لأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية تخصّ تغييب السياسة قسراً وقمع المعارضة على نحو وحشي، إلى جانب انعدام الدور الحيوي الذي لعبته عشرات المواقع الإلكترونية المصرية في مناهضة الولاية الخامسة والتوريث. ففي المثال السوري ـ وتحديداً خلال سنوات تدريب الوريث بشار وتأهيله، منذ سنة 1994 تاريخ وفاة شقيقه والخليفة المرشّح آنذاك باسل الأسد، وحتى عام 2000 تاريخ وفاة الأسد الأب ـ لم يكن انفجار المعلوماتية على هذا القدر من اليسر والاتساع والفاعلية؛ ولهذا كانت نادرة تماماً تلك المواقع الإلكترونية السورية التي يمكن أن تجاري المواقع المصرية، في طرائق التعبير عن رفض التوريث.
كلا الأخوين، مبارك والأسد، كان طاغية، وجمعتهما قواسم كثيرة مشتركة؛ ولكن قد تصحّ المساجلة بأنّ الثاني كان الأكثر انتهاجاً للعنف المفتوح واستسهال سفك الدماء واعتماد الردع الجماعي عن طريق تنظيم المجازر؛ فضلاً عن أنّ كبار قادة أجهزة الأسد الأمنية، وكبار الضباط على رأس جيشه، جرت تربيتهم منهجياً طبقاً لانحيازات طائفية لاوطنية، وشبكات ولاء عمادها امتيازات النهب والفساد والتشبث بالسلطة… وهذه أسهمت، كلها وسواها، في إنتاج مآلات غير متناظرة: بين اضطرار مبارك إلى التنحي، من دون عواقب كارثية قصوى وجرائم حرب وخراب عميم مثل تلك التي استقرّ عليه الأسد الأبن، وريث طغيان أبيه وحافظ نظامه.
وسوم: العدد 866