ومن الاختلاف ما قتل
ومن الاختلاف ما قتل
د. بلال كمال رشيد
فيم وعلام الناس مختلفون ؟!!
لا بُدَّ أن نختلف ونحن نُجيبُ على هذا السؤال ، فلكلٍّ فكرُه ومنطقُه ، ولكلٍّ اجتهادهُ وتحليلُه ، والشيء الوحيد الذي نتفق عليه هو أن الاختلاف سُنَّةٌ طبيعيةٌ ومظهرٌ صحيٌّ ، وأن الاختلاف لا يُفسد للودِّ قضية ، ولكنَّ الحقيقةَ تشهدُ وتُبرهن في أكثر من موقع وعلى أكثر من صعيد أن الاختلاف أفسد كلَّ ودٍّ و صِلة ، واختلق عدة قضايا خلافيةٍ تُفرق وتَفصل وتُشتت، وقد تتفاقمُ حتى لا تبقي لذي وصلٍ من صلة .
يكون الاختلافُ طبيعياً لو كان على أمور فكرية ، فيها وجهات نظر ، وفيها أخذ ورد ، عندما يكون احترام الآخر موازياً لاحترام الذات ، فيُدلي كلٌّ بدلوه ، ويُجلّي فكره وتحليلهُ بالأدلة والبراهين ، دون انتقاصٍ أو استسخافٍ أو استخفافٍ أو استعداءٍ من الآخرِ أو له ، فتنتهي المناظرةُ أو المناقشةُ أو المجادلةُ بِبيان رأيٍّ لا بفرضهِ ، وبالاستماع إليه لا برفضه ، ويبقى لكلٍّ جمهورُهُ ومؤيدوه ، وتبقى الساحةُ لكليهما مُغريةً بالحوار والتلاقي ، فكم من صاحبِ رأيٍّ ومن مُتلقٍ انتقل من مذهبهِ إلى مذهب الآخر !!!
لكن الاختلاف لا يكون طبيعياً ولا تكون نتائجُهُ محمودةً إذا كان التعالي والاستخفاف والاستعداء للآخر هو الدافع للمواجهة والتدافع ، فلا سبيل حينها للمحاورة أو المناظرة أو المجادلة بالتي هي أحسن ، فالأحسنُ والأصحُّ والأفضلُ وكلُّ صيغِ أفعل التفضيل المحمودة تصبحُ حِكراً لطرفٍ دون آخر، أما الصيغُ المذمومةُ والبذيئةُ فتذهبُ سيلاً جارفاً إلى حيثُ الآخر يكون . ولا يتوقف الأمرُ هنا بل يذهب هذا الاستعداء في مواجهة الآخر إلى تأليف الإشاعات وتصديقها وتوظيفها ، كما يذهب إلى اختلاق مواقف وأقوال ، فتأتي مفرداتُ الحوار - أو كما قلنا - المواجهة من قاموس الخيانة والعمالة وما شابه ذلك مما يؤججُ العداوةَ ويُرْبيها ، ويُغلق الأبوابَ والنوافذ أمام أيِّ نسمة خير وحبٍّ يمكن أن تَهِبَ أو تُوهب من هنا أو هناك !!
في واقعنا الراهن نجدُ الخلاف يسبق أيَّ لقاءٍ ويعقبهُ ، ونجد الاتهاماتِ تُلقى جزافاً ، وتجد عَيْنَ الرضا عن عيوب الذات كليلةً ، وتُبدعُ عَيْنُ الفكر حين تُبدي وتُعدد عيوبَ فكر الآخر ومساوئه ، فما أكثرُ الفُرقاءَ في زماننا !! ، وكلُّ فريق يتهم الآخر بالعمالة لأمريكا وإسرائيل ، و بالعمل ضمن أجندة غربية دون دليلٍ بين ، ولكنها تُهَمٌ وأقوالٌ وأسلحةٌ جاهزةٌ للإجهاز على الآخر !!
ما يحدثُ في مصر اتفاقٌ تامٌ على الاختلاف في كلِّ شيء ، واتفاقٌ على أيِّ اتفاقٍ يؤدي إلى الاختلاف : اتفقوا على الثورة ثم اختلفوا عليها ، واتفقوا على الصندوق واختلفوا عليه ، احتكموا للديمقراطية واختلفوا على نتائجها ، اتفقوا على السلمية واختلفوا على طريقة ذبحها ، اتفقوا على سماحة الإسلام واختلفوا في فرضه أو رفضه ، اتفقوا على الجيش حامياً وسنداً لكلِّ الشعب واختلفوا عليه سيفاً للشعب أو عليه ، اتفقوا على مصر أم الدنيا وعلى ابنها ( أجدع وأحسن الناس ) واختلفوا على تفكيره وتكفيره ، وعلى وطنيته أو عمالته ، وما زالوا مختلفين !!!
لقد أدى خلافُ المُشرع إلى اختلال الشارع واختلافه ، وأدى اختلافُ الرأيِّ بين قادة الفكر والرأي والإعلام إلى هذه المفسدة وهذه المقتلة ، فكانت الفتنةُ رحى المصريين ، فما ظبطهم قانونٌ ولا شِرعةٌ ولا منهاج .
نعم لقد أفسد بعض المفكرين والإعلاميين التاريخ المصري ، وأدى نفاقهم ومجاملاتهم إلى طمسِ حقائق ، ورسم مواقف ونشر إشاعات وأكاذيب ، ووصفوا العدلَ ناراً والظلمَ نوراً ،وتبددت معاني الإنسانية وهي تُواجه الآخرَ فكراً وحزباً ومذهباً واتجاهاً ،فكيف يمكن للمؤرخ أن يؤرخ ما يحدث في مصر الآن؟!
و ما هي الرواية الصادقة ؟ من هم الوطنيون ؟ ومن هم العلماء ؟ ومن هم العملاء؟!!
هل يمكن لمؤرخي زماننا أن يتفقوا على تأريخ الأحداث الجارية ؟؟!!
وهل نتفق مع الشاعر الذي قال :
ومن قرأ التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عُمْره
أم أن أعمارنا قد خُسفت ونحن نُقْتلُ مع كلِّ خلافِ رأيٍ وقتلِ إنسان ؟؟!