العمل الإسلامي: الثوابت والمتغيرات (2)
العمل الإسلامي:
الثوابت والمتغيرات (2)
حيدر قفه
تحدثنا في المقالة السابقة عن أهمية الثابت وضرورة المتغير في العمل الإسلامي، بعد التعريف بهما ووضع حدٍ لكل منهما، وبَيَّـنَّا أن الله تعالى – ومنذ بداية الإسلام – وضع بذرة الثوابت والمتغيرات وضرورة تلازمهما في العمل الإسلامي بضرب مثال على التشريع في مسائل تكفير الذنوب. ثم عرجنا على ثابتين من ثوابت العمل الإسلامي وأهمية وجودهما وثبوتهما وهما: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبَيَّـنَّا مجالات التغيير فيهما التي تتطلبها المرحلة دون المساس بأصل المبدأ الثابت، وفي هذه المقالة نَعْرِضُ لثوابت أخرى، والمتغيرات فيها.
1- التجمع والتنظيم من ثوابت العمل الإسلامي:
صحيح أن الدعوة إلى الله أبجديتها الأولى الدعوة الفردية، لكن هذه الجهود الفردية المبعثرة لا تثمر قيام كيان قوي يتصدى للانحراف في الأرض، وإقامة دولة الإسلام، لأن دولة الإسلام تحتاج إلى تنظيم هذه الجهود الفردية المبعثرة في كيان تنظيمي متماسك، له قيادة وأركان وجنود، ينتظمها نظام متكامل. وهذا ما عمل له رسول الله (r) منذ البداية، عندما نَـظَّمَ المقبلين على الإسلام في حلقات في دار الأرقم ابن أبي الأرقم وكانت على الصفا([1])، كما أن خروج عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنهما) على رأسيْ صفين من المسلمين من دار الأرقم إلى الكعبة للصلاة علانية في تحد واضح للمشركين دليل على التنظيم، ثم مؤاخاة المهاجرين والأنصار والترابط بينهم في مواجهة اليهود والمشركين دليل على التنظيم الذي يريده رسول الله (r) لهذه الجماعة المؤمنة.
والنصوص من القرآن والسُّنَّةِ تؤكد هذا التوجه وتؤصله، وبغير التنظيم الجماعي الحركي لا يقوم للعمل الإسلام قائمة، فهو ثابت من ثوابته. فكلمات مثل (فرقة) و(طائفة) (يتفقهوا) (ينذروا) كلها تدل على الانتقاء والتنظيم والتخطيط والوسيلة وتحقيق الغاية... وكلها من مكونات العمل الجماعي التنظيمي. وفي قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) ([4])، توجيه رباني لتضام الصفوف وتجميع الجهود لمقاتلة أعداء أشداء، وهذا لا يكون إلا بتجمع منظم. حتى في الأسلوب القرآني لا نجد إِلَّا هذا التوجه الجماعي، ففي الآيات القرآنية لا نجد نداءً واحداً يقول (يا أيها المؤمن) بل
(يا أيها المؤمنون). وفي أحاديث الرسول (r) الكثير من هذا التوجه الصريح، ففي حديث عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) أن رسول الله (r) قال: ".. عليكم بالجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" ([5])، وقال (r): "يد الله على الجماعة"([6]).
وهذه النصوص ومثيلاتها تؤكد ضرورة التجمع في تنظيمٍ للعمل من أجل الإسلام، وكل دعوة نجحت في التاريخ إنما كان وراءها تنظيم دقيق للعمل الجماعي، ونجد هذا التنظيم في الدعوة العباسية، والعلوية... وغيرها من الدعوات، حتى الدعوات في العصر الحديث – بغض النظر عن موافقتنا أو معارضتنا لها – كالشيوعية مثلاً، إنما كان وراءها تنظيم جماعي. لأنه لا عمل ناجحاً دون تنظيم، والجهود الفردية- وإن كانت صالحة في هداية فرد أو أفراد – لكنها لا تصلح لإقامة نظام ودولة، بل لا بد من تجميعها في عمل جماعي منظم، تتكاثف فيه الجهود، وتتعدد فيه المواهب، وتتنوع الملكات، وتكثر الاختصاصات، لسد كل الثغرات بكفاءة عالية، لمواجهة الأعداء بكل ضروبهم وأشكالهم.
أما شكل التنظيم والتجمع كيف يكون؟ فهذا من المتغيرات التي لم يُلْزِمُ الإسلام أحداً بها، وإنما أمرها متروك للعرف، والظروف، والبيئة، والتطورات التي تفرضها الأحداث.
كما أن السرية أو العلانية في العمل أمران جديران بالالتفات، وهما من المتغيرات أيضاً، حسب البيئة، والحرية، والأعداء، ونظام الحكم الذي تتعامل معه.
2- شمولية الإسلام من الثوابت:
يعمل أعداء الإسلام الخبثاء على تجزيء الإسلام، فيقبلون شيئاً منه، ويرفضون أشياء أخرى، أو يزعمون أنه دين للتزكية الروحية، والعبادة الخالصة، والمعاملة الحسنة وحسب، ولكن لا دخل له في السياسة ولا الاقتصاد ولا القوانين ولا الفنون ولا الآداب (شعر – قصة – رواية – مسرحية) ولا الإعلام...
وهم يعنون بذلك تقسيم الحياة إلى قسمين: قسم للآخرة، وقسم للدنيا، أما الدنيا فلا شأن للإسلام بها تنظيماً أو قيادة أو هيمنة، ثم يرمون من حاول أو يحاول ذلك بالتعصب والأصولية والرجعية وضيق الأفق، وبتنا نسمع مصطلحات جديدة توحي بخطأ الشمول في الإسلام، من مثل "الإسلام السياسي" أو "الإسلام الأصولي" كأن هناك إسلام آخر لا سياسي ولا أصولي، بمعنى أن المسلم الملتزم بدينه كاملاً متهم بأنه انحرف عن الإسلام – الذي يتخيلونه – إلى السياسة أو الانغلاق. وهذا خبث ودهاء تجاوز مرحلة الجهل بالإسلام إلى التخطيط في الكيد له ولأتباعه.
والعاملون للإسلام لا بد لهم من أخذ الإسلام كُلَّهُ، وترسيخ هذا في عقول الشباب، لأنه الحقيقة التي يجب إبرازها والدفاع عنها، ومحاولة كشف زيف الأعداء وسوء مخططاتهم والنتائج التي يرمون إليها، مع محاولة ترجمة شمولية الإسلام إلى دافع حيّ متحرك، بالدخول في معترك العمل السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والاجتماعي، والتجاري، والصناعي، والإعلامي، والفني، والعلمي، والأدبي، والتربوي... إلخ هذه المجالات التي تنتظمها الحياة. وهذه مهمة من يتصدى للعمل الإسلامي، دعوة وتنظيماً ورصاً للصفوف، والنصوص تدعمهم وتقوي حجتهم ومنطقهم، وتدحض تأويل المبطلين، وانتحال المعرضين، فليدفعوا بها في أعين هؤلاء عسى أن توقظ عقولهم، وتفتح قلوبهم أو تُدمي عيونهم وتلجم ألسنتهم.
قال الله تعالى ناعياً على من قبلنا من أهل الكتاب: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ)([7]) ، وقال تعالى أيضاً: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)([8]) ، وقال أبو بكر الصديق خليفة رسول الله (r) في شأن المرتدين وما نعي الزكاة " لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بينَ الصَّلاةِ والزَّكَاةِ"([9]).
ورسول الله (r) أسوتنا وقدوتنا، وما كان رسول الله (r) مصلحاً اجتماعياً وحسب، بل كان قائداً عسكرياً، وحاكماً عبقرياً، ومرشداً دينياً، ومربياً فاضلاً، وأباً رحيماً، وزوجاً فهيماً... وهو بحق نبي مرسل قد جمع الصفات الرائعة في شخصه، فهو القدوة في كل شيء.
وإن كان قد ساغ عند النصارى "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فالمسلمون لا يسوغ عندهم هذا، لأن كل شيء في حياتهم وعندهم وحتى أنفسهم والكون... لله.
فإذا لم يستسيغوا مسألة القيادة العسكرية ولا الحكم لأن عيسى (u) لم يمارس هذا، فالمسلمون مختلفون تماماً، لأن الرسول (r) قدوتهم، وقد جمع في شخصه أمريْ الدنيا والآخرة: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) ([10]) .
فشمولية الإسلام قضية لا نزاع فيها، فهي ثابت من ثوابت العمل الإسلامي، وعلى العاملين ترسيخها في الأذهان، ورفض كل محاولات التجزئة والاختيار.
أما المتغيرات في هذا المجال فهي مراعاة الظروف المتاحة التي تجعل الدعاة يقدمون أمراً على أمر، لكن لا يعني ذلك إلغاءه أو تعطيله، ولكن تأجيله لوقت أنسب، وبحسب التعبير الدارج: تقديم الأولويات حسب متطلبات المرحلة، وهي بذلك عملية تكتيكية ليس إِلَّا.
3- الوصول إلى القيادة (الحكم):
من العبث أن يدعي العاملون للإسلام عدم رغبتهم في الحكم، ويكتفون بترديد عبارات من مثل "إذا انصلح الحال فهو غاية المراد" ذلك أن الاكتفاء بإصلاح الأفراد في ذواتهم بحيث أنهم يحافظون على الصلاة أو يخرجون الزكاة... أو... أو... لا يكفي لإقامة حياة إسلامية نظيفة، ذلك أن ترك التشريع والقيادة لغير المؤمنين بمنهج الإسلام، وضرورة هيمنة هذا المنهج على الحياة، يجعل في أيديهم أخطر الوسائل للحيلولة دون إسلامية الحياة أو أسلمتها، بما يملكون من قوة التشريع وقوة التنفيذ وإلزام الناس بذلك، فعمل عشرات السنين في إصلاح فرد يهدمه من يملك أزمَّة الأمور بقرار تشريعي أو قانون أو توجه إعلامي في ساعات.
والدعاوى التي يرددها بعض من لم يفقه الحياة من مثل قولهم "نحن لسنا طلاب حكم" أو "غايتنا إصلاح المجتمع وحسب" وما شابه من عبارات توحي بزهدهم في الوصل إلى سدة القرار والتأثير، وترفعهم عن التلوث بالحكم، وتجردهم للآخرة، قوم موهومون، فإقرار الإسلام في الأرض كما أراده الله تعالى لا يكون إلا بحكومة إسلامية، تشرع القوانين التي تواكب العصر بمستجداته، وفي الوقت نفسه تتمشى مع الإسلام ولا تصطدم به، ثم تقوم الحكومة نفسها بالإشراف على تنفيذ ذلك والعمل على إنجاحه، ومراقبة كل المتربصين العاملين لتقويض هيمنة الإسلام على الحياة. فإن لم تفعل ذلك، أخلت الساحة – بطيبة قلوبها أو غفلة عقولها – لجند الشيطان يملأون الميدان، ويرتعون فيه ويمرحون.
إذن الوصول إلى القيادة أمر مهم، فالقائد له ولاية على الناس، والله تبارك وتعالى نص على أن الولاية لها خطورة على حياة الناس، ومن أجل هذه الخطورة لا تكون الولاية على المسلم إلا لمسلم مثله، ولا على المرأة إلا لزوجها، ولا على الطفل إلا لأبويه، فكيف بالحكم؟! ولو نظرنا في دلالة بعض الألفاظ مثل: هيمن، ولاية... ندرك
هذا المعنى. قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)([11])، ومن صفات الله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) )([12]).
وورد في شأن الولاية: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ)([13])، (ﯬ ﯭ ﯮ)([14])، وقال في شأن الشيطان: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ)([15]) .
فالوصول إلى القيادة هدف استراتيجي لأي جماعة تريد إقرار منهج الله في الأرض، وهو ثابت من ثوابت العمل الإسلامي، وإلا كانت الجهود مضيعة بغير فائدة.
أما المتغيرات في هذه النقطة فكثيرة، منها: إرجاء الأمر وتأجيله – وليس إلغاؤه – كمرحلة تكتيكية، إذا كانت الظروف غير مناسبة، أو كوادر الحركة الإسلامية غير كافية أو مهيأة لاستلام الحكم؛ لأنها في مثل هذه الحال تسيء إلى نفسها وإلى الإسلام ذاته، وهذا منزلق خطر لمن يتعجلون النتائج.
ومنها الاستعانة بغير المسلمين في مرحلة من المراحل، إذا عُدم المسلم الكفؤ فقد استعان النبي (r) بعبد الله بن أُرَيْـقِط – وهو على شركه – في إرشاده للطريق يوم الهجرة من مكة إلى المدينة، ومثلها الاستعانة بأهل الخبرة من علماء وأطباء ومهندسين وكاتبين... في الدولة الإسلامية.
ومنها التحالفات السياسية المرحلية مع من لا يؤمن إيماناً كاملاً بمنهج الإسلام، كضرورة ملجئة، لا يتم الأمر إلا بها، فالرسول (r) حالف خزاعة ولم تكن مؤمنة. وقد استفاد من هذا الدرس الإخوان المسلمون في مصر عند تحالفهم مع حزب العمل لدخول البرلمان، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن في تحالفها – أو تنسيقها – مع أحزاب من المعارضة بينهم وبينها قواسم مشتركة في العمل السياسي لتكوين جبهة معارضة قوية، وحزب الإصلاح اليمني مع حزب الرئيس علي صالح... وهكذا.
وهذه وشبيهاتها متغيرات تفرضها الحياة، ولا بد من دراستها والعمل على استيعابها وتوظيفها لخدمة الهدف العام، دون المساس بثبوتية المبدأ.
([1]) إمتاع الأسماع للمقريزي ج 1 ص 18 – 25.
([2]) آل عمران: 104.
([3]) التوبة: 122.
([4]) التوبة: 36.
([5]) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
([6]) صحيح الجامع الصغير 2/1340 رقم 8065، وسنن الترمذي كتاب الفقه 3/313.
([7]) البقرة: 85.
([8]) الأنعام: 159.
([9]) متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان 1/5 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
([10]) الأحزاب: 21.
([11]) المائدة: 48.
([12]) الحشر: 23.
([13]) البقرة: 257.
([14]) آل عمران: 68.
([15]) النحل: 99-100.