كيف أفاق العرب من صعقة هزيمة 5 يونيو 1967 ؟!
ستظل الهزيمة العربية أمام إسرائيل في حرب 5 يونيو 1967 أغرب الهزائم في التاريخ العسكري ، وسيظل الانتصار الإسرائيلي أسرع الانتصارات وأرخصها ثمنا للمنتصر . حسمت تلك الحرب في ثلاث ساعات عقب تدمير إسرائيل 85 % من السلاح الجوي المصري في قواعده في ثلاث موجات من الغارات الجوية على تلك القواعد ، ودمرت في نفس اليوم لسوريا والأردن والعراق 102 طائرة في قواعدها أيضا . كانت الهزيمة العربية صاعقة مفاجئة ، وكان الانتصار الإسرائيلي خاطفا ومذهلا ، فانقلبت كل الموازين في يوم واحد ، وبعد أن كان العرب يتحدثون عن إزالة إسرائيل وتحرير فلسطين بدؤوا يتحدثون عن إزالة آثار عدوانها الجديد . تقلص العرب وتضاءلوا ، وتوسعت إسرائيل أرضا ، وتعملقت شعورا بعظمة الذات ، وأضحى دايان وزير دفاعها وبطل انتصارها يمشي هو وجنرالات جيشه في زهو الطواويس ، وتوقح في زهوه فجاهر باعتقاده أن إسرائيل تستطيع هزيمة الاتحاد السوفيتي ، أما العرب فقرر واثقا أنهم لن تقوم لهم قومة حتى مائة سنة . وبدأ العرب ، خلافا لحالتهم النفسية وتقديرات إسرائيل المنتشية بانتصارها ، يفيقون . كان جمر الاعتزاز بالذات يتوقد تحت رماد الانكسار القومي الذي انهمر على أرواحهم . وأول من أفاق كانت غزة ! نعم ، غزة . عقب شهر من الهزيمة أخذت تشكيلات صغيرة جدا من جيش التحرير الفلسطيني الصغير تتعرض ليلا للدوريات الإسرائيلية ، والتحقت بتلك التشكيلات عناصر من الشبان الذين لم تكن لهم خبرة سابقة بالسلاح والقتال ، ودربوا سرا وسريعا عليهما . كان المقاومون يطلقون الرصاص ليلا على دوريات الجيش الإسرائيلي ، ويبثون الألغام في الطرق التي يتوقعون مرورها فيها ، واشتهر في هذا الطريق العام الذي يمتد عبر قطاع غزة من جنوبه إلى شماله والذي سمي لاحقا " شارع صلاح الدين " ، وصارت القوات الإسرائيلية تتهيب الخروج ليلا ، وكتب المراسل البريطاني توم ليتل الذي كان يعمل في غزة إن : " غزة محتلة نهارا ، محررة ليلا " ، ولم تحتمل إسرائيل قسوة عبارته ، فطردته . وانفجرت الإفاقة الثانية من سلاح الجو المصري الجريح الذي ظلمه سوء إدارة قيادة جيشه وغفلتها ، ففي 14 يوليو ، وتحت إدارة القائد الجديد له مدكور أبو العز ، قام بضربة قاسية للقوات الإسرائيلية في الضفة الشرقية لقناة السويس دفعت من رعبها وشدتها بعض الجنود الإسرائيليين إلى دفن أنفسهم في الرمال . وفي نوفمبر دمرت الزوارق المصرية بصواريخها المدمرة الإسرائيلية إيلات التي كانت " تتفسح " في المياه المصرية بعبارة عبد الناصر الساخرة . وفي 23 مارس 1968 عبرت الدبابات الإسرائيلية إلى ضفة نهر الأردن الشرقية لمقاتلة الفدائيين الفلسطينيين الذين قال دايان في سعار غروره إن مقاومتهم بيضة في يده يستطيع سحقها متى أراد . وبوغتت القوات الإسرائيلية بضراوة مقاومة الفدائيين الذين آزرتهم مدفعية الجيش الأردني من مرابضها في المرتفعات المطلة على ميدان المعركة السهلي المنخفض . في النظريات العسكرية أن أسرع الجيوش للهزيمة جيش تعود على الانتصار أو انتصر في معركة أو اكثر . وهذا ما حاق بالقوات الإسرائيلية المهاجمة . تكسرت معنوياتها في مواجهة صمود القوات الفلسطينية والأردنية وبسالتها ، وهالها كثرة قتلاها وجرحاها وما حطم أو عطل من دباباتها . من تاريخ تلك المعركة ، معركة الكرامة منطقة ورمزا ، أن الفدائيين الفلسطينيين كانوا يسرعون إلى ساحة القتال على ظهر سيارات التاكسي ومقدماتها . ويئست إسرائيل من حسم المعركة لصالحها أو الانسحاب المأمون منها ، فاستصرخت مجلس الأمن بمعونة أميركا لوقف القتال لتسحب قواتها وقتلاها وجرحاها . كل إنجاز عسكري عربي كان يشفي جزءا من ألم جرح الهزيمة الفاغر الملتهب.
واتجهت مصر إلى حرب الاستنزاف التي كلفتها وكلفت إسرائيل كثيرا ، وتوقفت بعد ثلاث سنوات بمبادرة روجرز الأميركية . وانفجرت الإفاقة الكبيرة من قهر الهزيمة في 6 أكتوبر 1973 حين عبر الجيش عصر ذلك اليوم ، السبت ، قناة السويس ، وطلع فجراليوم التالي وله رأس جسر عسكري من 50 ألف جندي في منجز عسكري مرموق هز إسرائيل ، واندفع الجيش السوري نحو الجولان المحتل في هجوم مكتسح ، وصفه تقرير لحلف الأطلسي بأنه جرف القوات الإسرائيلية جرفا . وباقي ما حدث تاريخ معروف . وما بدا في أسبوع الحرب الأول انتصارا عربيا واضحا اختل وتراجع بعد تدخل أميركا ودول غربية في صف إسرائيل ، وقال هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأميركي وقتها : " لن نقبل هزيمة السلاح الأميركي أمام السلاح السوفيتي " إلا أن ذلك الانتصار الأولي أعاد إلى رأس إسرائيل صوابه ، ووجهها نحو حالة من التواضع . كانت الحرب زلزالا ضربها بتعبير المحلل العسكري الإسرائيلي الشهير زئيف الذي وضع كتاب " زلزال أكتوبر " . ونشطت السياسة فأساءت مصر وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية إدارتها ، وتفرق العرب أيدي سبأ ، وتعاقب تفرقهم متصاعدا في توسعه وخطره وشروره القاتلة ، وهم اليوم في قمته المخيفة . عقب هزيمة يونيو قال الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر : " السياسة العربية جنت على العسكرية العربية ، ولو أعطينا فرصة لأريناكم ماذا نفعل بعسكريي بإسرائيل " ، وقال الإعلام العالمي عن سعد الدين إنه نظم حركة القوات المصرية في المعركة أحسن كثيرا من تنظيم حركة المرور في القاهرة . السياسة العربية في الصحيح جنت على كل شيء في حياة العرب ، وهي اليوم في أعلى جنايتها . الحرب والسياسة خلاصة حالة مجتمعات ، ولن تنجح أي حرب عربية ، ولن ترشد أي سياسة عربية ما بقيت المجتمعات العربية يحكمها حكام يمتلكون البلاد والعباد ، ويأخذون شرعيتهم من أعداء أمتهم ، ويفعلون بمواطنيها وثرواتها وقدراتها الهائلة المتنوعة ما يرونه نافعا لهم وحدهم ، وحافظا لمنافع أعداء أمتهم .
وسوم: العدد 879