جدل حول علاقات درويش الشّخصية
أثار مقال للشاعر السوري سليم بركات نشر في القدس العربي بتاريخ 6/6/2020 تحت عنوان "محمود درويش وأنا" موجة من التعليقات الناقدة بسبب ما اعتبر أن سليم بركات باح بسر، متعلق بحياة محمود درويش الشخصية، والغريب في موجة هذه التعليقات في مجملها أنها ساذجة وغير حكيمة وأنها عاطفية، وأخذت المقال إلى تفسيرات لا منطقية إلى حد اتهام الشاعر درويش بالذكورية واستغلال المرأة، عدا أن بعضها يشي بعنصرية ما، فصار سليم بركات "أيها الكرديّ"، مع أن درويش استخدم هذا التركيب في قصيدته المهداة لسليم بركات "ليس للكرديّ إلا الريح". أنا لم أنتبه لأستعيد كردية الشاعر إلا بسبب هذا النوع من التعليقات الساذجة بكل معنى الكلمة. وليس هذا وحسب بل أصبح مقال سليم بركات ذا لغة غير مفهومة ومعقدة، بل إن الشاعر رديء اللغة والأسلوب، وخضع لتقييم فيسبوكي من رواد الصفحات الزرقاء، وهم يجهلون درويش وإبداعاته، أكثر مما يجهلون سليم بركات ولغته ومجازاته. هذا الشاعر الذي قال عنه درويش "أفضل من كتب باللغة العربية منذ عقدين من الزمان".
محمود درويش وسليم بركات شاعران عربيان كبيران، وصديقان حميمان، وعندما يكتب شاعر عن شاعر بهذه الطريقة لا شك في أنه لا يريد أن يقدم معلومات ضارة عن الشاعر، فلا شيء يضر الشاعر، لاسيما وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وانتهت الحياة، وكل ما حدث في هذه الدنيا سيظهر بلا شك، عاجلا أم آجلا، وكما قال الشاعر القديم "ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ". وكل ما فعله درويش فعله وهو مقتنع فيه، فلا يصحّ أن ننصّب أنفسنا محامي دفاع عن الشاعر المثال ذي القدسية والمنزّه والقدّيس الذي يسكن مخيلتنا، ولا يصح أيضا أن نشن هجوما غير مبرر على الشاعر سليم بركات، أم أننا نحن الذين لا نعرف درويش شخصيا ولا يعرفنا سنكون ملوكا أكثر من الملك. لم يكن سليم بركات يكشف سرا بالتأكيد، نحن من اعتبرنا أن هذا سر، وأن علينا أن نخفي مثل تلك المعلومات الشخصية، أما الأمر عندي فعادي جدا، حتى لو اعتبر سرا في تغريدات الآخرين، وأنه كذلك لا يعتبر انتهاكا لحياة درويش الشخصية.
وفي ظني أن المسألة حملت أكثر مما تحتمل، فعالم الأدباء مليء بالأسرار، بل يكاد لكل أديب سر كبير، بل في حياة كل منا سر، ربما لم يخش الشاعر أن يطلع عليه القراء، كما يخشى القراء أنفسهم. خوفا من أن تتحطم صورته المثالية في نظرهم، فهؤلاء يرفضون التفريق بين شعر الشاعر وأدبه وبين حياته الشخصية التي هي ملكه، ومن حقه أن يفعل بها وفيها ما يريد، وليس لأحد أن يطالبه بأن يكون مثاليا أو ملاكا.
لقد عرف الأدب عربيا وعالميا حالات مشابهة، فعندما نشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني لها، ثارت ضدها أقلام كثيرة، واتهمت بأخلاقيات المهنة، مهنة الكتابة، وبانتهاك الخصوصية، كما عادت الضجة ذاتها والجدل نفسه عندما نشرت رسائل الشاعر أنسي الحاج لها، كما رأينا هذا الجدل مع نشر رسائل الأدباء بعد الموت، واعتراض بعض المقربين على نشر تلك الرسائل، وهذا الاعتراض ليس خاصا بالمجتمع العربي، بل نجده كذلك مع نشر رسائل الأدباء والمثقفين في العالم أيضا.
ثمة حياة كاملة إنسانية عاشها الأدباء والأديبات، ذات تفاصيل صغيرة وبسيطة وحياتية عادية، يجب ألا تضخّم وتأخذ أكثر مما هي. عندما نشرت مقال "الحب في حياة فدوى طوقان"، ونشر في صحيفة القدس العربي بتاريخ 28/10/2019، استغرب الأصدقاء والقراء كيف قضت الشاعرة أسبوعا في شقة سامي حداد في لندن. أيعقل أن تبيت معه في شقة واحدة وفي غرفة واحدة وعلى سرير واحد؟ هكذا استقبلت تلك المعلومة الواردة في إحدى رسائل الشاعرة إلى ثريا حداد أخت سامي. بل كان الاستغراب من أن الشاعرة الودودة الهادئة الرصينة ذات الحسب والنسب العائلي لها كل تلك العلاقات وأحبت كل هؤلاء الأدباء وأحبوها وكتبت لهم وكتبوا لها رسائل.
وعودا لمقال سليم بركات عن صديقه محمود درويش، فإن ما ذكره يؤكد ما كان درويش يصرّح به علنا من أنه كان ينفر من فكرة العائلة ومؤسسة الزواج. ولم يكن متخيلا أن يكون له ولد أو بنت في يوم من الأيام، على الرغم من أن درويش يصرح بحبه للنساء، ورغبته في معاشرتهن، كونه إنسانا ذا غريزة يجب أن تشبع، هكذا بكل بساطة ووضوح. وهذا السلوك لدرويش يجب ألا يخضع للتقييم الأخلاقي؛ لأنه أمر لا يخصنا، وهو حر فيه. وبناء على ذلك فإن ما حدث معه بعلاقة عابرة مع امرأة متزوجة، وكان من نتيجة تلك العلاقة بنت، ورفض الشاعر الاعتراف بهذه الطفلة الابنة، كما أخبر بذلك سليم بركات يجب ألا يخضع هذا الموضوع للمحاكمة الأخلاقية، أو الدينية، بعيدا عن بعض التأويلات الشاطحة في تفسير نصّ سليم بركات كما فعل بعض الكتّاب حيث حشروا ما لا يلزم فيما يلزم، فكتبوا مقالات ذهبت بعيدا في التأويل رافعة النص إلى سدة الفلسفة أحيانا، فكانت ضرباً من التهويم في نص لا يحتمل، والموضوع برمّته عابر.
على كل حال ليس أول سر يكشف عن درويش أو غيره من الأدباء والأديبات، إن اعتبرنا ما حدث سراً كشفه صديق وخان عهد الصداقة. ربما هناك المزيد، بل إن هناك الكثير من الخفايا، ولو كان درويش يعيش في مجتمع غير هذا المجتمع، لقرأنا أسرارا كثيرة من أديبات مشهورات، أقام درويش معهنّ علاقات طويلة، ونام في أسرتهنّ، وأصدقاؤه المقرّبون يعرفون ذلك، ويتحدّثون بينهم فيه، وسمعتُ جانبا منه، ولكنهم، ولكنهنّ، وخاصة "هنّ" أضعف من أن يبحن بتلك المعلومات وبتفاصيل تلك العلاقات أو عناوينها العريضة. فالشاعر درويش ليس بمنأى عن الأسرار وبعض الممارسات التي تبدو غير أخلاقية، فقد كان شاعرا وسيما مرموقا مرغوبا فيه من النساء، وهذا طبيعي. وكان من الأولى المرور عن تلك المعلومات مرورا عابرا، كأي معلومة هامشية، كقولنا مثلا إن درويش كان يشرب القهوة مرة. ربما كان من الأولى ألا نظلّ نتعامل مع الأدباء المشهورين كأنبياء ذوي هالة قدسية تحرّم عليهم أن يحيوا حياتهم ككل البشر.
وسوم: العدد 881