إمبراطوريات الملح سريعة الذوبان
يوم بعد آخر تعصف الحقائق بأوراق الغزو الأمريكي الصفراء لتتساقط الواحدة تلو الأخرى, عارية إلا من ضعفها وهزالها, وتهمس الرياح مبشرة بأن الخريف الإمبراطوري الأمريكي يبدأ من العراق، وتنتهي به. إنها ليست نهاية التأريخ كما توقع الكاتب الأمريكي فوكياما في كتابه (نهاية التأريخ )، بل أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية الذي لن يتجاوز سوى بضعة منذ الزلزال السوفيتي وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية السابقة. فقد انتهت الحرب الباردة بين القطبين بلا حرب حقيقية، وهذا ما رفع منسوب الغرور والغطرسة الأمريكية ليس أمام العالم الثالث فحسب بل أمام الحلفاء الغربيين أنفسهم!
إنها ولادة بشعة لإمبراطورية كان طورها الجنيني خارج الرحم الإنساني، وتغذت من سرته دماء ولحوما بشرية، فولد كائنا مسخا مفترسا أشد دموية من الذئاب، مشبعاً بفوضى شريعة الغاب، غرور وحشي مهاب، وبطش، بلطجي لا يهاب، قوة خارقة، وإقتصاد هائل، وتقنية علمية جاذبة للعلماء سيما من دول العالم الثالث.
تجمعت كل هذه الامكانات في كائن يجهل القيم السماوية والأرضية، يعبث بالدول سيما الضعيفة منها بلا رادع، ولا ضمير، عدو للإنسانية، عدو حتى لنفسه، لم يشهد له تأريخ الغاب مثيلا، منفرداً بعنفه، وفريدا في إجرامه، وانتهاكا لحقوق الآخرين.
وهجه الإمبراطوري مرً سريعاً كالبريق ولكنه لم يبهر العيون ولم يذهل العقول، مذنب سريع ما أن مس الغلاف الجوي للإنسانية حتى تشظى وتبدى دون أن يترك أثراً طيبا ورائه، كأنما جاء في غفلة من التأريخ والزمن. مجرد فيروس لا يُرى بالعين المجردة (الكورونا) أطاح بغطرسة المارد الامريكي، لا القنابل النووية، ولا الصواريخ البعيدة المدى ولا الطائرات ذات التقنية العالية، ولا الأقمار الصناعية، ولا الغواصات والبارجات النووية قدرت على الوقوف بوجهه الشبحي الغريب الملامح. فيروس سلط الضوء على الجانب المظلم مما يسمى بالحضارة الامريكية والاوربية، ووضح لنا هشاشة الجانب المظلم من الصورة، هذه الامبراطورية التي تحكم وتتحكم بمصائر البشر، تحكم بها فيروس، وجعلها تتخبط في كيفية مواجهته، الامبراطورية التي تريد ات تقلب معادلات الحرب من الأرض الى حرب النجوم، فشلت في مواجهة هذا الفيروس الأرضي غير المرئي، يا للعار والشنار على هذه الامبراطورية.
من المؤكد أن حقائق التأريخ تقدم دروسا مجانية ومهمة للأجيال الحالية والقادمة، فالتأريخ أفضل الوعاظ، لأن وعظه متأتياً من تجارب وخبرات، وليس من خرافات تطلق جزافا، وقيل سابقا التجربة أفضل برهان. وقيل ايضا اسأل مجرب ولا تسأل حكيم. فالإمبراطوريات كما صورها الفلاسفة مستدين على حقائق تأريخية أشبه بسلاسل الجبال تارة صعوداً وتارة نزولا، وقد يكون الصعود حادا والنزول حادا بنفس القوة، وربما أكثر، أو العكس قد يكون الصعود بطيئا والهبوط أبطأ، ولكن من المؤكد أن الإمبراطورية الأمريكية كما ولدت سريعاً فإنها ستنحدر بسرعة إلى الوديان جارفة معها مخلفاتها الاصطلاحية من الشرق أوسطية والعولمة والخصخصة والقطب الأوحد، وحرب النجوم، والحرب الأستباقية وغيرها مما صدعت به عقولنا.
تُقاس أهمية ومكانة الإمبراطوريات بمقدار ما قدمته للحضارة الإنسانية، وما رفدت به العالم من علوم ومعارف، وما تركته من بصمات على الثقافة والآداب والفنون، وليس بما شوهته ومسخته من قيم وأخلاق، أو ما اختلقته من حروب، ووسائل دمار شامل. من خلال دراسة تأريخ الحضارات والإمبراطوريات لم يشهد التأريخ امبراطورية دموية وتخريبية كالإمبراطورية الأمريكية، فقد جعلت من فرعون ونيرون وهتلر وموسوليني أقزاما أمامها، فهي لا تشرف الإنسانية، ولا الشعب الأمريكي، بل إنها لطخة عار في جبينه على مر التأريخ.
من اليابان وفيتنام إلى كوريا وكمبوديا وفلسطين والسودان والصومال وبيروت وأفغانستان والعراق وليبيا وغيرها من دول العالم جرت أنهار من دماء بسبب طغيان وعبث المارد الأمريكي المتعجرف، الذي يريد أن يطوي كل العالم تحت أجنحته، ولكن من المحال أن يتم ذلك فالعالم كبير، والشعوب واعية، وأقوى من أن تنطوي بذل وخنوع تحت جناح أي إمبراطورية مهما بلغت قوتها وشدة بأسها، ومهما تمددت على الجهات الأربع، ومهما ركدت وهدأت حركة الشعوب لسبب ما، فاعلم أن وراء الهدوء عاصفة هوجاء تطبق الأرض بالسماء. ان العدوان والتفرد والطغيان والاحتلال والممارسات الهمجية والإبادة الجماعية واستخدام العنف ضد الشعوب، كلها تنصهر في بوتقة النهوض الحتمي للشعوب المقهورة والمستعبدة، وقبلها تعري الولايات المتحدة من ورقة التوت الأخيرة أمام العالم! وبنفس الوقت تشعل شرارة الثورة الحتمية برفض سياسة الطغيان والهيمنة والاستحواذ.
الإمبراطورية الأمريكية حملت معها بذور فنائها بسبب سياستها المتغطرسة تجاه دول العالم واستهانتها بالقيم والأخلاق الإنسانية، وهذا هو المرض العضال الذي أودي بحياة الإمبراطوريات السابقة، والذي لم تستنبط منه الولايات المتحدة الأمريكية درسا مفيدا. بدأت الانتقادات توجه لسياستها الحمقاء من داخل بنيانها السياسي والفكري ومن اقرب حلفائها، كما سيتبين بعد حين فقد جاء في تقرير (جوزيف كولينز) نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق (دونالد رامسفيلد) نشر في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية، بأن بلاده " تدفع في الوقت الحاضر فاتورة أخطائها، من احترام أقل من قبل دول العالم، وتزايد الكراهية لها، بسبب الاعتماد المفرط على القوات المسلحة، والتأثير السلبي على مسألة الإرهاب الدولي"، واصفا غزو العراق بأنه" أم الحروب" واعتبر أنه بالقياس إلى الدم الذي نزف والمليارات التي أنفقت فالأمر سيكون هزيمة نكراء لامريكا! اي ليس نصرا ساحقا كما صرح به الرئيس الامريكي وإدارته.
يبدو أن الكيان الصهيوني بالرغم من أنه من أول المستفيدين من تدمير العراق، الذي أخرج من حلبة النزاع معه كأقوى متحدِ في المنطقة، لكن عدد من المحللين السياسيين الصهاينة انتقدوا السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عموما، والعراق خصوصا من خلال تعاملها العراق وإيران. ففي دراسة ترجمها وعلق عليها الأستاذ (احمد الغريب) بعنوان ( الولايات المتحدة الأمريكية أمام التحديات الشرق الأوسطية)، والتي أعدها الباحث الإستراتيجي (باري بوزان)، جاء فيها أنه " لا يتوقع أن تنجح الولايات المتحدة في إستراتيجيتها في العراق، وستضطر إلى البحث عن طرق جديدة، لأن هناك الكثير من الأمور التي تحول دون سير الأمور بطريق صحيح، فالولايات المتحدة لم تدرس الأيدلوجية العراقية بشكل جيد، بل العكس فقد صبت المزيد من الزيت على النار، وانتهى الى القول" العراقيون المقيمين في داخل العراق يظهرون كراهيتهم تجاه الولايات المتحدة ، كما أن الموجودين منهم خارج العراق يؤيدون حركات المقاومة العراقية، وأن بقاء القوات الأمريكية في العراق يؤدي إلى بقاء الوضع الأمني والسياسي على حاله"، وقد أكد الرئيس الحالي ترامب ان السياسة الامريكية في حرب العراق كانت خاطئة وفاشلة!
وفي تحليل آخر نشرته صحيفة (جون دياموند) جاء فيه بأن الولايات المتحدة" فشلت في العراق بسبب سوء تقديرها لما حصل وما سيحصل بعد خروجها منه! وأن عملية إقصاء الشعب الأمريكي عن عملية التخطيط واختبار النتائج المحتملة للغزو، أدى إلى تكرار الإدارة الأمريكية لأخطائها السابقة والتي كلفتها الكثير. ويشير المحلل بأن" استخدام القوة في العراق قد ضاعف الأخطاء، ولا بد من أن نتعلم من أخطائنا". ولكنهم كما يبدو لم يتعلموا، فالقوة مغرية وغالبا ما تدفع صاحبها الى الحماقة.
الإمبراطورية الأمريكية تتعارض مع القيم الحضارية، وبدون رؤية إنسانية واضحة لا يمكن أن تستمر الإمبراطورية، إنها ستكون أشبه بتجارب الخيال العلمي والعبور إلى خارج الزمن، بالإعتماد على ابتكارات شبحية تقفز على الحقائق الموضوعية، بأجنحة افتراضية، فتبرمج أهدافها مع أهوائها ومصالحها الضيقة! ولكن سرعان ما تستفيق من خيالها على صوت الواقع المرير، ولكن بعد فوات الأوان!
الحضارة الحقيقية كما علمنا التأريخ هي الخروج من الدوائر المغلقة ورفض التمترس، والتأكيد على ضرورة الانفتاح على بقية الحضارات وإدامة الزخم العلمي والمعرفي والثقافي معها، وإشاعة أجواء الألفة والود بين الشعوب وتسهيل عملية انتقال وتبادل العلوم لكي تصب جميعها في رافد الإنسانية الكبير! والامبراطورية الامريكية بعد تفكيك منافسها الاتحاد السوفيني السابق، توجهت الى الصين كمنافس جديد، وبدأت ملامح الحرب الباردة معها، بعد انتشار فيروس كورونا، سيما ان الدلائل تشير الى تورط الصين في تدجين ونشر هذا الفيروس الخطير، وتسربه بالخطأ عن مختبراتها.
الحضارة الحقيقية هي إشاعة ثقافة التحرر والتسامح واجتثاث فكرة تغليب القوة على العدل في التعامل مع الآخرين دولا كانت أو شعوبا، واعتماد معيار واحد للتعامل مع الجميع، لأن ازدواجية المعايير تخلٌ بالقيم والمبادئ المتعارف عليها في ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، بل وتفتح أذرعها للترحيب بالظلم والعدوان وانتهاك حقوق الآخرين والعبث بمقدرات الأمم.
الحضارة الحقيقية بوتقة تضم عناصر متجانسة من الوضوح والصدق والأمانة والعدل والحق ورفض ممارسة الخداع والتمويه بشعارات زائفة كترويج الديمقراطية وتحرير الشعوب وتعزيز حقوق الانسان وتأمين الحريات الرئيسة، وقيم مفبركة وراء غربال من المصالح السياسية والفرص الانتهازية.
الحضارة الإنسانية هي التي تزرع بذور التطور والتنمية والنهوض لدى الشعوب ولا تنشر أشواك الإحباط والخوف والتوجس والفوضى. لا يوجد في التأريخ ما يسمى بالفوضى الخلاقة فالفوضى لا يمكن أن تخلق إيجابيات، كما أن القذارات لا يمكن أن تنتج مطهرات!
الحضارة التي تراهن على الهيمنة والعبودية والاستحواذ وإذلال الآخر، هي حضارة بمفهوم عكسي، إنها أشبه بفوران وقتي وسريع لا يلبث أن يخمد دون أن يخلف شيئا يذكر. الحضارة الأمريكية ليست سوى فوران بشهادة مفكريها أنفسهم. والإمبراطورية في طريقها إلى الأفول وهذا ما يتضح يوماً بعد آخر وسيبدأ الأفول من العراق يرافقه افول ولاية الفقيه الشريان الأبهر للشيطان الأكبر في تدمير العراق. مع أفول الإحتلالين يمكن للعراق ان ينهض من كبوته، ويسترجع قوته، ويحتل مكانته الصحيحة واعتباره السابق بين الأمم. وكان الأمل كبيرا في ثورة اكتوبر ـ قبل أن تفقد بريقها بفعل الكورونا وغيرها من الأسباب ـ لتنقذ العراق من هيمنة الأحزاب السياسية الفاسدة والنفوذ الايراني، وتدخل المرجعيات الشيعية في إدارة الدولة. نأمل ان تستعيد الثورة عافيتها وتعود بقوة كما كانت، متبعة أساليب تختلف عما انتهجته في السابق من اساليب أثبتت عدم فعاليتها، خيبت ظنوننا مع الأسف الشديد.
ونود ان نبين انه غالبا ما يستخدم البعض مفردات بشكل خاطيء او تترجم للعربية بصورة خاطئة، مثلا الجاسوس والعميل الذي تُسمم افكاره من قبل اجهزة المخابرات الأجنبية او رجال الدين المتطرفين يُطلق على العملية (غسل دماغ)، ومن المفروض ان يطلق عليها (تلويث دماغ)، لأن الغسل يعني التنظيف والطهارة، وما يحدث العكس تماما. ومنها فيروس الكورونا الجديد، فقد أطلق على إنتشار الوباء (الجائحة) ولا نعرف من وكيف تم أختيار هذا المفهوم؟ فالجائحة في اللغة العربية تعني " الشدة التي تجتاح المال: أي تذهب به من سنةٍ أو فتنة، وفي الحديث عن النبي (ص) " إِن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا تأخذ منه شيئاً". يعني قبل القبض". (شمس العلوم). (مسند أحمد).
وسوم: العدد 881