بين منهج المحدثين ومنهج المؤرخين، وماذا لو جاءتنا أحاديث نبينا كحكايات تاريخنا !؟
وهذا مبحث يجب أن لا ينقطع فيه تأمل المتأملين ، واعتبار العلماء والمتعلمين . ويجب أن نظل نقف عند مبادئه و حدوده ، ونستشرف آفاقه ، ونعيد النظر مثنى وثلاث وعُشار في ثناياه ..
وماذا لو ؟!
أطرحها ، وأستعيذ بالله من شرها ، وأترضى الله عن كل عالم وضع لبنة في جدار الحفظ ، وفي جدار التنقية ، وفي بناء نفي الريبة والزغل والباطل والإفك عن حديث رسول الله ، وعن سنته ، وعن مثل الكتاب الذي أوتيه .
وأعتقد أن حفظ السنة الشريفة ، المومى إليها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " مشمولة بوعد الحفظ الرباني ، بقوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) . ومن بركة هذا الوعد ، وفي ظله ؛ ألهم الله العلماء الأثباتَ ، ما ألهم من مناهج وطرائق وقواعد في حفظ سنة رسول الله ، وفي الذود عنها وتنقيتها ، وفي نفي البهرج والزيف عنها .
قواعد المحدثين ، أو منهجهم ؛ علم نشأ في هذه الأمة من غير أول . يعني أنه لم يكن في أمة قبلنا من يضع قواعد ومناهج ، لبحث النص وتوثيقه ، والالتفات إلى صحته وبطلانه ، أو قوته وضعفه ؛ كما فعل العلماء المسلمون ، حتى سميت أمتنا بحق " أمة السند " وأمة ( فَتَبَيَّنُواْ ) وأمة التحقيق ..
نهج علماء الحديث المناهج للوقوف عند الروايات وتمحيصها باختلاف اللفظ والحرف ، ثم بالوقوف عند الرواة وتفحص هوياتهم ، ومعرفة تفاصيل حيواتهم ، وتقلباتها في صحتهم ومرضهم ، وتقلب أحوال الزمان بهم . ثم كانت لهم مناهجهم في القبول والرد ، وفي الإعمال والإهمال ...
لم يكن " علم الحديث " علما واحدا كما يظن الظانون أو المستعجلون ، بل كان حزمة من علوم منها ما يتعلق بمتن الحديث ، لغته وصياغته وموافقته وشذوذه ومعناه وفقهه وما يبنى عليه وما يستفاد منه . ومنها ما يتعلق بحامل هذا الفقه ، من رواة تتم دراسة أحوالهم من لحظة التحمل إلى لحظة الأداء ، يدرسون أفرادا كل واحد بشخصه ، ثم يدرسون مع كل رواية مجتمعين . ووضع علماء هذا العلم الجليل الجديد لكل حال أو وصف أو فرع ، مهما تناهى في الدقة ، من أحوال المتن والسند مصطلحات وعناوين يومى بها إليه ، ويعبر بها عنه ، وتوافقوا على معانيها وأحكامها . فكان إبداعا آخر في عالم المصطلحات ، حتى كان مصطلح " العلة " عنوانا لمعنى عام غير منضبط ، يقوم في عقل المحدث وقلبه ، فيقول ويريبني في هذه الرواية ريب ، ولا يستطيع أن يسميه .
ربما كان على الآخرين أن ينتظروا حتى القرن السابع عشر ، ليكون لهم عالم مثل الهولندي اسبينوزا - مترجم كتابهم المقدس - يكتب لهم كتابا تحت عنوان " اللاهوت والسياسة " لو رجعت إليه لوجدته يحاول استنساخ مناهج المسلمين في التحقيق والتوثيق.
لقد كان ما بناه المحدثون المسلمون - من رواة ورجال صنعة محققين - بناء جميل لا ثغرة بحمد الله ومنّته فيه ، فما أن يُعرض علينا قول ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى حياته ، أو إلى أي شأن من شؤونه ؛ حتى نجد من سبق إلى وضع هذه الرواية تحت المجهر، فتفحصها كلماتها وحروفها ، معانيها ودلالاتها ، وعرف رواتها وأحوالهم وصفاتهم ، وأين عاشوا؟ وأين التقوا ؟ وأين ومتى لقي أحدهم الآخر ، وتحمل بعضهم عن بعض ؛ ثم بعد ذلك يصدر القاضي الفاضل العادل حكما ، ويقبل أن يراجع فيه . فإن حصل اختلاف بين القضاة في حكم على حديث ، فما هو بالاختلاف الكبير ولا هو بالاختلاف الكثير ..وأطلت في شرح هذا ردا على ثلاثة أصناف من أهل الريبة ..
أهمهم عندي شباب ذوو حداثة من بني قومنا، يرددون أقوال أهل الريبة من حيث لا يعلمون ...
ثم أصحاب كيد ومكر ، ما يزالون يكذبون على هذه الأمة في تقبيح الجميل ، وتجميل القبيح ، في كل أمرها ، وفي كل ميدان من ميادين حياتها ؛ في الدين والدنيا ، في الشريعة والقانون ، وفي الاجتماع والسياسة والاقتصاد ..
والصنف الثالث ، أتباع الفرق ، من أهل الأهواء والبدع ، الذين سربلوا كراهيتهم لهذا الدين بسرابيل كثيرة ، منها ما يشيع بين ظهرانينا من ادعاء حب لآل بيت رسول الله، وانشغالهم بالدفاع عن الأقصى والقدس وفلسطين . وقد كتب بعضهم من قبل : وأما الطعن في الصحابة فقد كان الهدف الأول والأخير منه هو إسقاط الإسلام بإسقاط حملته . وهل روى الكتاب والسنة إلا الصحابة الكرام ..ليس حبا لعلي ولا كرها لعمر ، وإنما كراهية لهذا الدين ...
وأعود بعد كل هذا وقد أطلت لاستطالة أصحاب الشبهات ؛ لأسأل وماذا فعل المؤرخون؟!
في العربية المعبرة : كانوا مثل حاطب ليل . بلغة العصر نقول جرفوا بالجرافات وسطروا . لا تحقيق ولا غربال ولا منخل . كتبوا كل ما سمعوا ، سطروا كل ما وصل إليهم ..
ولكي لا يُظلموا وحاشاهم من ظلم ؛ أعلمونا في مقدمات كتبهم أنهم يروون وأن علينا أن نحقق ونميز ، ونفصل حقا من باطل ، وصحيحا من سقيم . بل تجد أحيانا بعضهم وقد توسع فروى الطامات التي تأباها العقول السليمة ، والنفوس القويمة ، والتي لا تقوم لنقد ناقد ، ولا لتمحيص ممحص ..يلقي العهدة على الرواة . ويقولون من أسند فقد برئ . وتركوا لنا ركام روايات لا ندري صحيحها من سقيمها ، ولا غثها من سمينها إلا بما لا نكاد نملك في هذا العصر من أدوات التحقيق .
والأدهى من كل أولئك ، أنهم كان وراءهم أقوام من الكذابين والوضاعين وأصحاب الأهواء؛ صنعوا لهذه الأمة بالكذب والإفك والزور تاريخا ، وثقافة ، وأدبا ، وأعادوا وأبدؤوا في الكذب والغش حتى سبقوا غوبلز بقوله : اكذب ثم اكذب ثم اكذب يصدقك الناس ... ومع الأسف وما زلنا نصدق الكثير ..
يقول لك ويتكئ ويروي : تاريخ الطبري / مجلد .../ وصفحة ... ، رحم الله شيخ المؤرخين وكبير المفسرين الطبري ، وهو خرج من العهدة في أول كتابه ، وقال بأنه يروي ما انتهى إليه ، ويضع بين يديك السند لتعلم ؛ فإن لم تكن عالما بالسند فما علمت !!
ويقولون رواه اليعقوبي والمسعودي وفلان وفلان في علم ما يزال حاله كشجر في غابة تلتف على أغصانه الأفاعي ، وترتع في أصولها القوارض ..
وكان سؤالي : وماذا لو ترك لنا المحدثون كما ترك لنا المؤرخون ؟!!! وأجيبب الله أرحم بعباده ، وأحفظ لشريعته ... وجزى الله عنا رجالا حفظوا علينا حديث نبينا كل خير .
هل تعلمون : أردت أن أنهي إليكم بضرب بعض أمثلة من واقع التاريخ الذي نروي ، والذي نردد ، والذي نتلقى بالقبول فلم أجرؤ .. لأنني لو فعلت سأصطدم بكثير من الباطل المستقر منا في العقول والقلوب ..
وسوم: العدد 882