كل من أطغاه ماله في كل زمان يكون مصيره لا محالة كمصير قارون
القرآن الكريم هو كلام الخالق جل في علاه الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه يصنف البشر إلى دنيويين وأخرويين خلافا للتصنيف البشري الذي يعتمد اعتبارات لا قيمة لها . والدنيويون أصحاب علو وفساد في الدنيا ، لا يبالون بالآخرة بينما الأخرويون أهل تواضع وصلاح فيها لا تغيب عن أذهانهم الآخرة طرفة عين .
ولقد ورد ذكر نماذج من أهل الدنيا وأهل الآخرة في الذكر الحكيم ، وسنقتصر على نموذج مشهور من أهل الدنيا ورد ذكره في سورة القصص ، وهو قارون الذي كان من قوم موسى عليه السلام ، وهو نموذج الطغيان المادي المعاصر لطغيان فرعون السياسي . ولقد ذكر الله تعالى حجم ثروته التي جعلت أهل الدنيا في زمانه يتمنون مثلها كما جاء في قوله تعالى : (( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي ))
إلى أن قال سبحانه وتعالى : (( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبدار الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )) .
في هذه الآيات الكريمة من سورة القصص قص علينا الله سبحانه وتعالى قصة قارون ليس للتسلية بل للعبرة ، ذلك أن الناس زين لهم حب الشهوات كما قال الله تعالى : (( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ))، والشهوات هي أشد الرغبات في الملذات ، وقد جاءت مرتّبة في قول الله تعالى حسب شدتها وإلحاحها على النفس البشرية ، ذلك أن شهوة المال أتت بعد شهوة التكاثر وقبل شهوات المراكب والمطاعم .
ومعلوم أن كل الشهوات يتوقف وجودها على المال الذي به تتحقق وتشبع، لهذا يشتد تعلق الناس به ، والتعلق به إنما يكون لإشباع باقي الشهوات .
وقد سمى الله تعالى كل ذلك متاع الحياة الدنيا ، وهو متاع وصفه سبحانه وتعالى بقوله : (( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) ،والمتاع كل ما ينتفع به انتفاعا قليلا ، ويكون مصيره الزوال ، والغرور هو الباطل الذي هو في الأصل لا شيء ، فما باله إذا كان سريع الزوال .
ولما كان هذا هو حال الناس مع حب الشهوات، فقد ساق لهم الله عز وجل قصة قارون وهو نموذج المغتني غنى فاحشا مثله يطغي لا محالة كل الناس إلا من شمله الله عز وجل بلطفه ورحمته . ولقد أشار الله تعالى إلى طغيان قارون الذي كان سببه هو مراكمة الثروة الطائلة التي جعلته يبغى على قومه ، والبغي جور وظلم يكون مصدره الفساد الذي يسببه الاغترار بالثروة . ومن طغيانه أيضا ادعاؤه استحقاق المال والحصول عليه عن علم و معرفة . ومن طغيانه أيضا الأبهة وهي تعاظم، وكبرياء، وخيلاء، وعجب . ومن طغيانه أيضا الرغبة في نشر الفساد في الأرض . ومن طغيانه جعل الحياة الدنيا غاية غاياته مع إسقاط الحياة الآخرة من اعتباره .
هذه الآفات المترتبة عن غلبة شهوة المال على النفس البشرية إنما ذكرها الله تعالى تحذيرا للناس منها في كل زمان ، وفي كل مكان ، لأن حب المال والتعلق به يوقع فيها لا محالة . ولو استعرضنا مراحل التاريخ البشري الطويل مما قص علينا الله عز وجل في محكم التنزيل أو فيما أرّخ له البشر لوجدنا أن الطغاة الذين مروا في هذه الحياة الدنيا إنما أطغاهم المال ، وقد جاء في الذكر الحكيم : (( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى )).
ولقد كانت سنة الله عز وجل في خلقه هي أخذ الطغاة الذين يطغيهم الغنى بعذاب أليم . وإذا كان الخسف وهو ابتلاع الأرض لما فوقها ،هو عقوبة طغيان قارون ،فإنه عبارة عن انحدار من أعلى إلى أسفل ويكون ماديا ومعنويا في نفس الوقت. وقد تتنوع أساليب الخسف الذي يلحق بمن تطغيهم الثروات، ولكنها كلها مذلة ومخزية في الحياة الدنيا ليكونوا أصحابها عبرة للمعتبرين .
ولقد تغير موقف الذين تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون عندما حل به الخسف المهين الذي عاينوه ، حتى أنهم اعتبروا نجاتهم من مصيره منة من الله عز وجل . ولقد أنهى الله تعالى قصة قارون بالتنبيه إلى أن الذي يجدر بالناس أن يتمنونه هو الدار الآخرة التي تبتغى عنده سبحانه بما في أيديهم من مال وهم في الحياة الدنيا ليبين لهم أن هذا الذي في أيديهم من ثروة أو مال إنما أعطوه لهذه الغاية وليس لغاية الفساد والإفساد في الأرض .
والمؤسف أن قصة قارون لا زالت تتكرر كل يوم في هذه الحياة الدنيا ، وستبقى كذلك إلى قيام الساعة ، حيث تطغي مراكمة الثروات بعض النماذج البشرية، فيزعمون كما زعم قارون أن هذه الثروات قد حصلوها بعلم لديهم وبذكائهم وتفوقهم وشطارتهم ، وهم ينفقونها لإشباع ما يشتهونه من شهوات في حياتهم الدنيا لا يبالون بما يصيبون من ملذات محرمة حتى إذا ما أدركوا كل ما يشتهونه ، صرفوها في كل أنواع الفساد والإفساد في الأرض . وقد يصرف بعض هؤلاء الثروات الطائلة في شراء الأسلحة المدمرة والفتاكة ،وهمهم هو إشعال الحروب في الأرض فتأتي على الأخضر واليابس، وتهلك الحرث والنسل ، وكفى بها فسادا منكرا وهم يتلذذون بعذاب ضحياها البؤساء تماما كما يتلذذون بإصابة شهواتهم الأخرى ، ويصيرون أهل جور وظلم على الطريقة القارونية ، ولا يضعون في اعتبارهم ولا نصب أعينهم الدار الآخرة ، ولا يبتغونها بما أعطاهم الله عز وجل ، ويتنافسون الدنيا ، ويتباهون بزينتها على اختلاف أنواعها من مساكن ومطاعم وملابس ومراكب برا وبحرا وجوا حتى أن بعضهم أنفق ما يسد مسغبة آلاف الجياع ليطير في الفضاء من أجل التفرج على ما فيه لأن طغيانه بالمال جعل الأرض لا تسع كبرياءه . ومنهم من ينفق الطائل من المال أيضا لاقتناء لوحة زيتية لو أنه أنفقه على المرضى البؤساء لأنقذ آلاف الأرواح من المعاناة والهلاك . وقد بلغ الأمر ببعضهم أن دفع مبلغا خياليا مقابل الحصول على لباس داخلي منتن ينضح عرقا وصنانا لإحدى لاعبات التنس مستخفا بالمال الذي آتاه الله عز وجل ومبتذلا له ابتذالا، وهو من نعمه سبحانه وتعالى المستحقة للشكر ، وشكره إنما يكون بإنفاقه في مرضاته وابتغاء وجهه لا في العبث العابث . وتكثر حكايات تبذير هذه النماذج الطاعية للمال في ما لا يخطر على بال ، ولا يتصور أو يتخيل من الأمور التافهة ، وذلك من أجل إشباع طغيان نفوسهم المريضة .
وسنة الله عز وجل في الخلق الذي يطغيه المال هي الخسف إما على الطريقة القارونية أو بطرق أخرى تنتهي كلها بذل وهوان في الحياة الدنيا قبل هوان الآخرة وهو أدهى وأمر .
فمتى سيفيق من أطغاهم غناهم من غفلتهم ، فيتعظون من مصيركمصير قارون وبئس المصير ؟
وسوم: العدد 884