هل سيدخل اليهود والنصارى الجنة؟
رداً على مزاعم الشيخ محمد عبده ومَن يتبنى وجهة نظره
تدور معظم آيات سورة "المائدة" على أهل الكتاب فتَعْرِض بعض حلقات من تاريخهم وتُسلِّط الضوء على شيء من عقائدهم وانحرافاتهم وتحلل بعض جوانب نفسيتهم. ونركِّز هنا على الآيات التي تتحدث عن عقائدهم وواجبهم نحو دعوة محمد صلى الله عليه وسلم . ويبدأ الحديث ببني إسرائيل، الذين تقول الآيات عنهم إن الله قد أخذ ميثاقهم على الإيمان به سبحانه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان برسله وإقراضه قرضا حسنا لقاء إدخالهم الجنة، أما من يكفر منهم بعد ذلك فإنه يضل سواء السبيل، وإنهم رغم هذا قد نقضوا الميثاق فباؤوا بلعنة الله وقسوة القلب، ولم يكتفوا بذلك بل أضافوا إليه تحريف الكلم عن مواضعه ونسيان جزء مما نزل عليهم، وأصبحت الخيانة طبيعة فيهم لا يشذ عنهم في ذلك إلا القليلون (الآيتان 12 – 13) . ثم ينتقل الحديث إلى النصارى، الذين أخذ الله میثاقهم أيضا لكنهم نسوا جزءا مما نزل عليهم فعاقبهم الله بنشر العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة (الآية 14). وتمضي السورة فتدعو أهل الكتاب إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الكريم وما فيه من نور يهدي من يتبعه إلى الصراط المستقيم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة . ثم تهتف الآية السابعة عشرة بكفر من يُؤلهون السيد المسيح مدمدمةً بالرفض العنيف والغضب الإلهي الرهيب لهذه المقولة الشنيعة. كما تُسفه الآية التي تليها دعوى أهل الكتاب مِن يهود ونصارى "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، وتعود الآية التي بعدها إلى تحذيرهم من الكفر بمحمد صلی الله عليه وسلم، الذي لن تكون لهم حجة يوم القيامة يستطيعون الدفاع بها عن انصرافهم عن دعوته لأن مجيئه لهم مبشرا ونذيرا يقضى على كل حجة. وفي هذا إشارة إلى ما تقرره الآيات القرآنية في سورتي "الإسراء" و "النساء"، من أن الله يبعث برسله للبشر حتى لا يتحججوا يوم القيامة بأنهم لم يصلهم ما يبين لهم الحق من الباطل والصواب من الخطأ (الإسراء: 15) و (النساء: 165). وبعد عدة آيات ينتقل الكلام إلى الحديث عن طائفة مِن رؤساء اليهود سكان المدينة ممن كانوا يرسلون الجواسيس إلى مجالس الرسول لينقلوا إليهم ما يدور فيها ويحاولوا إثارة الشغب والفتن، فتصفهم بأنهم "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ" وتأكد أنهم سيكون "لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، وحكم عليهم بأنهم "سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ"، وتبين التواءهم وخبثهم في إتيانهم إلى النبي ببعض مُذنبيهم يريدون منه أن يحكم عليهم ولكن على هواهم لا على أساس النصوص الموجودة في كتابهم والتي يتجاهلونها کافرین بها، ومن ثم تقول الآية عنهم إن "َمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" و "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، كما تقول عن أهل الإنجيل الذين لا يحكمون بما أنزل الله فيه "إن وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". ثم تذكر الآيات نزول القرآن مؤكدة أنه هو المرجع الذي يهيمن على كتب القوم والمعيار الذي يُقاس به مدى صحتها أو تحريفها، وآمرةً الرسول أن يحكم بينهم به ومحذرة إياه من أن يتركه ويتبع أهواءهم فيقع فيما يريدون إثارته من الفتن، أما إذا تولوا عنه فلا ينبغي أن يأسی عليهم ولا على ما سيصيبهم من العقاب والعذاب بسبب ذنوبهم وفسقهم. كذلك تحذر الآيات (ابتداءً مِن الآية الخمسين) المسلمين مِن موالاة اليهود والنصارى، أى التداخل معهم ومحبتهم والاطمئنان إليهم رغم عداوتهم الشديدة للإسلام والمسلمين، وكذلك مِن الوقوف إلى جانبهم أو على الأقل الوقوف موقف اللامبالاة المائعة مما يبيتونه للدين الجديد ورسوله وأتباعه منبهة إياهم إلى أن مودتهم وولاءهم ينبغي أن يكونا لله ورسوله والمؤمنين لا لأولئك الذين يكرهونهم ويسخرون من دينهم وعبادتهم ويحقدون عليهم لإيمانهم بجميع الرسل والكتب السماوية . كما تعرض الآية الحادية والستون لبعض من مؤامراتهم الدنيئة، إذ يتظاهرون بالإسلام خداعا وتجسسا مع بقائهم في أعماقهم كفارا . وتذكر الآيات التالية بعض انحرافاتهم وآثامهم وأكلهم السُّحت وتجديفهم في حق الله بالقول بأن يديه مغلولتان، أي بخيل يقتر على عباده، وكراهيتهم لما ينزل على الرسول من قرآن، تلك الكراهية التي تدفعهم إلى المزيد من الكفر والطغيان وإلى محاولة إشعال الحرب ضده وضد دينه وأتباعه . كذلك تدعو الآيات(ابتداء من الآية 65) أهل الكتاب إلى إقامة التوراة والإنجيل، أي العمل بهما والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم حسبما جاء فيهما، وتأمرهم بالإيمان والتقوى حتى يُكفِّر الله عنهم سيئاتهم ويوسع عليهم في معايشهم، وتعود فتذكر بموقف اليهود مِن الميثاق الذي عقدوه مع ربهم على أساس الإيمان بمن يرسله إليهم من رسل ونقضهم هذا الميثاق بتكذيهم بعض الرسل وکفرهم بهم وقتلهم بعضهم الآخرين مومئةً بهذا إلى موقفهم من النبي محمد عليه الصلاة والسلام، إذ كذبوه وعادوه وكفروا برسالته وجيشوا عليه الجيوش ودبروا لقتله وغدروا بالمعاهدة التي كانت بينهم وينه وأرادوا القضاء على الدولة التي يستظلون بظلها الرءوف الرحيم. كما تعود فتذْكُر كفر النصارى بقولهم إن الله هو المسيح بن مریم برغم أنه لم يدعهم إلا إلى عبادة الله ربه وربهم وأوضح لهم أنه "مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ"، كما تذكر كفرهم بقولهم إن الله ثالث ثلاثة، مع أن الله بطبيعته لا يمكن أن يكون إلا واحداً، وإلا كان محدودا شأن المخلوقات ويجوز عليه ما يجوز عليهم مِن الضعف والحاجة والمرض والخوف والموت.. إلخ فلا يكون حينئذ إلها، وتهددهم بأنهم إذا لم يرجعوا عن هذا الكفر ويتوبوا منه ويستغفروا ربهم فسوف يمسهم عذاب أليم، وكذلك تدعوهم إلى عدم الغلو في دينهم وتحذرهم من اتباع الضلالة والضالين المضلين ، وتشير إلى اللعنات الساحقة الماحقة التي أمطر بها داود والمسيح عليه السلام كفار بنی إسرائيل. ثم تتحدث بعد ذلك عن فريق من النصارى فيهم رهبان وقساوسة مخلصون أتوا إلى الرسول واستمعوا، بعقل وقلب مفتوح يحب الحق ويبحث عنه، إلى القرآن الكريم فدمعت منهم العيون وانطلقت منهم الألسنة معلنة إيمانها بالرسول وكتابه. وتختتم الآيات هذه القصة بقولها: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ". وقُرب نهاية السورة(ابتداء مِن الآية 116) نسمع حوارا يوم القيامة بين رب العالمين وعبده عیسی ینكر فيه رب العزة على من يُؤلهون المسيح ومريم إنكارا عنيفا ويجيبه ذلك الرسول الكريم في خشية ووجل نافيا أن يكون قد أمرهم بهذا الكفر.
الآيات، كما هو واضح لكل ذي عينين، تدين أهل الكتاب دينونة شديدة وتُكفِّرهم لنقضهم الميثاق وتحريفهم الوحي الذي أنزل عليهم، وغدْرِ اليهود وتقتيلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح ومحمد، وتثليث النصارى وتأليههم لعيسى ولأمه وكفرهم بمحمد، وتوعد هؤلاء وهؤلاء بالجحيم والعذاب الأليم. وهذا هو موقف القرآن في كل سورة تتحدث عنهم لا تشذ عن ذلك آية واحدة .
على أن هناك بعضا من المستشرقين قد وقفوا عند الآية 69 مِن السورة متوهمين أن بينها وبين سائر الآيات القرآنية التي تتحدث عن اليهود والنصاری تناقضا، إذ يظنون أنها تبشرهم، رغم بقائهم على يهوديتهم ونصرانیتهم وعدم دخولهم في الإسلام، بالنجاة يوم القيامة. وهذا هو نص الآية الكريمة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" ( ومثلها الآية 62 من سورة البقرة). والمستشرق إدوار مونتيه، الذي كان عميدا شرفيا لجامعة جنيف وممن ترجموا القرآن إلى الفرنسية، هو واحد من هؤلاء المستشرقين الذين يرون بين الآية الكريمة وباقي آيات القرآن التي تتحدث عن أهل الكتاب تناقضا. وقد سوَّل له عقله، وهو يعلق على هذه الآية في ترجمته للقرآن، القول بأن العقيدة الإسلامية في هذا الموضوع قد مرت بأدوار من التطور قبل أن تصل إلى صياغتها النهائية.
(E. Montet, Le Coran, Payot, Paris, 1929, p. 198, n. 8.) .
فهل يوجد حقا بين هذه الآية والآيات الأخرى تعارض يسوغ لذلك المستشرق التقدم بهذه النظرية العجيبة التي تصور القرآن وكأنه شخص مذبذب لا رأي له في القضايا الثابتة التي لا تقبل بطبيعتها تطورا فيما يطرح بشأنها من آراء ؟ إن من يرجع مثلا إلى الآيات السابقة واللاحقة على هذه الآية حيث يصم الله اليهود والنصارى بالطغيان والكفر وانعدام التقوى والخروج على ما أمرتهم به التوراة والإنجيل (الصحیحان طبعا لا المحرفان) من إيمان بكل الرسل سوف يتأكد بنفسه أنه لا تعارض ولا يحزنون، فإن الآية المذكورة تشترط للنجاة الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو ما لا يتحقق في أهل الكتاب ، الذين يكفرون بالله ورسوله عاصين بذلك أوامر الله بالإيمان بمن يأتيهم من رسل ، وذلك حسبما توضح لنا الآيتان 150 - 151 من سورة "النساء" اللتان تقولان : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا"، ومثلهما في ذلك الآية 29 من سورة "التوبة": "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" وكذلك الآية 92 من سورة "الأنعام"، التي تشير إلى القرآن ووجوب الإيمان به، ونصها: "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ"، أي أن من لا يؤمن به ليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر، وكذلك أيضا الآيتان 156 - 157 من سورة الأعراف، اللتان يجيب فيهما المولى عز شأنه على دعاء موسي إياه أن "اكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ" بقوله: "عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" . وعلى هذا فإن من يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس مِن المؤمنين بآيات الله بنص هاتين الآيتين أيضا ولا مِن المفلحين الناجين يوم القيامة. وكيلا يكون هناك أدنى شك في هذا نجد الآية التي تلي هاتين الآيتين تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (أي مشركين وأهل كتاب) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" ونفس الشيء يقوله هذا المستشرق عند تعليقه على الآية 82 من سورتنا، وهي تقول: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى"، إذ يوهم أنها تتعارض مع ما تصبه السورة كلها من هجوم وإدانة على النصارى، إلا إذا ثبت أنها منحولة كما يقول.
(Ibid, p. 200, n. 9.)
والحق أنه لا تحل ولا تعارض، فالآية المجيدة لا تتحدث عن النصاری بوجه عام بل عن طائفة منهم خاصة وردت على النبي صلى الله عليه وسلم وقد فتحت عقولها وقلوبها لقبول الحق أينما وجدته ومتی ما وجدته، فلما استمعت إلى آيات القرآن الكريم تبين لها أنه هو الحق الذي تسعى إليه وتأثرت قلوبها المخلصة الرقيقة وذرفت عيونها الصادقة الدموع وأعلنت من فورها الإيمان بالله وبرسوله. وهذه تتمة النص القرآني الكريم: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ" ؟.
ولا يمكن أن يكون المقصود هو كل النصارى ولا كل القساوسة والرهبان، إذ ليس كل النصارى ولا كل قساوستهم ورهبانهم يصدق عليهم ما وصف الله به هذا الفريق المذكور في الآية حينما ذكر عدم استكبارهم وفيضان دموعهم من الحق الذي يعرفونه وإيمانهم بمحمد وابتهالَهم لربهم أن يكتبهم مع الشاهدين.
وأىُّ فهمٍ غير هذا هو فهم خاطئ مائة في المائة. أليس النصارى هم الذين شنوا علينا الحروب الصليبية لعشرات مِن السنين وافتروا على رسولنا الكذب وشتموه وأهانوا القرآن الكريم بتحريض من قساوستهم ورهبانهم وذبحوا عشرات الألوف من أسلافنا في بيت المقدس؟ أليسوا هم الذين نكثوا بمعاهداتهم مع مسلمی الأندلس فأخرجوهم من ديارهم وأكرهوا الذين بقوا منهم هناك على النصرانية وأذاقوهم ويلات محاكم التفتيش التي تقشعر منها الجلود والنفوس وتشيب لهولها الولدان ؟ أليسوا هم الذين استعمروا بلاد المسلمين كلها تقريبا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب واستنزفوا ثرواتها ونقلوها إلى بلادهم وقمعوا ثوراتها الاستقلالية بالسيف والنار وأذلونا حكاما ومحكومين واصطنعوا لهم من بيننا من يخون دینه وبلاده وأمته ويتعاون معهم ويمدهم بالأسرار وينفذ لهم مخططاتهم؟ أليسوا هم الذين لَمُّوا أبناء القردة والخنازير من أرجاء المعمورة وأعطوهم فلسطين غدرا وخديعة رغم الاتفاقات التي كانت بيننا وبينهم وأمدوهم بالمال والرجال والسلاح وعضدوهم في المحافل الدولية وباركوا قتلهم لأطفالنا وبقرهم لبطون نسائنا وتنكيلهم برجالنا واعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم وتقتيلهم لأبطالنا وسموهم الإرهابيين وطاردوا منا كل حر وشريف في أقطار الأرض؟ أليسوا هم الذين أحرقوا البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان والعراق ودمروا بيوتها واغتصبوا نساءها الشريفات وقتلوا عشرات الآلاف من إخواننا فيها وردموا عليهم المقابر الجماعية كأنهم جثث كلاب؟ أليسوا هم الذين يثيرون الفتن الوضيعة في جنوب السودان بغية تمزيق ذلك البلد الأمين؟ هل يستطيع أحد أن ينكر ذلك؟ وهل فاعلو هذا يمكن أن يصفهم القرآن بأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين؟ إن القرآن لا يهزل، فهو مِن عند رب العالمين ، واليهود رغم خبثهم وقسوتهم وكراهيتهم لنا وكفرهم برسولنا وكتابنا لم يصنعوا عشر معشار ما صنعه النصاری بنا. والسبب هو ذلتهم لقلة عددهم بالنسبة للنصاری. بل إن كل ما فعله اليهود بفلسطين وبالبلاد العربية المحيطة بها ما كان ليتم لولا مباركة الصليبية العالمية لهم ومساعدتها إياهم وتآمرها علينا ووقوفها ضدنا في كل ميدان (ومن ذلك اجتماع رجال الدين النصارى الإنجيليين من كل أنحاء العالم في مؤتمر 1985م في بال بسويسرا في الذكرى الثامنة والثمانين لمؤتمر التأسيس الأول للحركة الصهيونية لمساعدة دولة إسرائيل بكل سبيل ماديا كان أو معنويا بما فيه الضغط على جميع الدول للاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. فانظر مدی کراهيتهم للإسلام! وقد بلغ عدد المشتركين في هذا المؤتمر 589 شخصا، وبلغ عدد الدول التي وفدوا منها 27 دولة (انظر مقال: الصهيونية غير اليهودية، لمحمد السماك / الأهرام /6 أغسطس 1997م).
وقد كنتُ وما زلتُ أومن بأن الغرب الصليبي هو الذي يسخر اليهود لضرب الإسلام لا العكس، ولا أجد مَقْنعا في الادعاء القائل بأن لليهود سطوة في بلاد الغرب لا تُقَاوَم. ودائما ما يكون ردي على هذا الادعاء هو: كيف نجَمَتْ هذه السطوة فجاة في العقود الأخيرة؟ وأين كانت يوم كان اليهود يُضطَهَدون هناك ويُسامون الخسف والهوان والعذاب؟ ثم قرأت مقالا للدكتور محمد عمارة يحلل فيه العلاقة بين اليهود والصليبية العالمية على النحو الذي في ذهنی، وهو أنهم في الغرب يتحملون . "رذالات" ، اليهود ويدللونهم لقاء الخدمات التي يؤدونها لهم بضرب الإسلام والمسلمين وأن المسلمين يستطيعون أن يفكوا هذه العلاقة بين الطرفين إذا أثبتوا أنهم رجال وناضلوا عن حقوقهم وكرامتهم بشرف - انظر د. محمد عمارة مقال: هذا إسلامنا / الشعب / الثلاثاء 2 سبتمبر 1997م /ص 12 - وكذلك مقال عادل حسين في صحيفة الشعب ، أيضا عن الموقف الأمریکی من العرب وإمكان تغييره الجمعة 7 ديسمبر 1997م /ص 5 ، وشحاتة هارون / يهودي في القاهرة / 1987م/ 90، 98 وما بعدها).
إنَّ هذا ليس تهوينا مِن جرائم اليهود والصهاينة بل هو وضع لها في إطارها الصحيح.
نعم، اليهود يكرهوننا ويحقدون علينا حقدا ساما، وقد تآمروا مِن قبل على الإسلام وأرادوا قتل الرسول وكادوا أن يطعنوا المسلمين في ظهورهم في الظلام طعنة قاتلة في غزوة الخندق، ووضعت له عليه الصلاة والسلام، امرأة منهم سما في طعام قدمته له ولأصحابه، وذلك كله رغم معاملة الإسلام إياهم بالحسنى وعقد الرسول معهم معاهدة أول هجرته إلى المدينة سوى فيها تمام التسوية بينهم وبين المسلمين وأعطاهم حرية مطلقة في دينهم وعبادتهم وأحوالهم الشخصية. لكنهم في العصر الحاضر ما كانوا ليقدروا على شيء مما فعلوه بفلسطين وأهلها وبالمصريين والسوريين واللبنانيين إلا بمعاونة الغرب وتخطيط الغرب وتشجيع الغرب وتعضيد الغرب لهم وتهديده لنا إن فكرنا في القضاء على هذا السرطان الذي أصاب جسد العروبة والإسلام.
هذا إذن موقف القرآن في سورة المائدة، بل وفي كل السور الأخرى مِن أهل الكتاب، لكن جاء في العصر الحديث مَن يقول كلاما غير هذا: فالشيخ محمد عبده أولا يحصر الفرق الجوهري بين المسلم والكتابي في عدم إيمان الأخير بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومزاياها في التوحيد والتعبد والتهذيب قائلا إن الجهل هو السبب الرئيسي وراء هذا الامتناع عن الإيمان بالرسول الكريم. ثم هو ثانيا لا يجد في ذلك كبير غضاضة، إذ ليس الفرق عنده بین المسلم والكتابی رغم هذا إلا "الفرق بين الموحدين المخلصين العاملين بالكتاب والسنة وبين المبتدعة الذين انحرفوا عنهما" . كما يقول: "إن القرآن ، وهو منبع الدين، يُقارب بين المسلمين وأهل الكتاب حتى يظن المتأمل فيه أنهم منهم لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة" (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده / تحقيق محمد عمارة /4/ ص 609 ، 614)، فضلا عن أنه يرى أن الحكم على المؤمنين وأهل الكتاب واحد في الآية 62 من سورة البقرة، وهي الآية التي تقول ( مثلما تقول آية سورة "المائدة" التاسعة والستون ): "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (المرجع السابق/4/ ص 612)، أي أنه يقول بنجاة اليهود والنصارى والصابئين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر حتى لو لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك جريا على الفهم السطحي للآية، وهو ما بينا خطأه وتعارض مع القرآن الكريم فيما مر من سطور. وقد كرر هذا المعنى في تفسيره للآيات 113 - 115 مِن سورة آل عمران، ونصها:"لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ"، إذ قال: "وهذه الآية مِن العدل الإلهي في بيان حقيقة الواقع... وهي دليل على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء وأن كل من أخذه بإذعان وعمل فيه بإخلاص فأمر بالمعروف ونهی عن المنكر فهو من الصالحين. وفي هذا العدل قطعٌ لاحتجاج أهل الكتاب الذين يعرفون من أنفسهم الإيمان والإخلاص في العمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه استمالة لهم وتناءٍ عن التفرقة بين الأمم والملل التي لم يكن يعترف فيها أحد الفريقين بفضيلة ولا مزية للآخر كأنه بمجرد مخالفته له في بعض الأشياء، وإن كان معذورا، تتبدل حسناته سيئات . وظاهر أن هذا كالذي قبله في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم خلافا لمفسرنا الجلال (يقصد تفسير الجلالين) وغيره الذين حملوا المدح على من أسلم منهم، فإن المسلمين لا يمدحون بوصف أنهم أهل الكتاب وإنما يمدحون بعنوان المؤمنين (السابق /5/ ص 47).
وردا على هذا نقول: هل يُعقل، بعد وصم الله لأهل الكتاب الذين رفضوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالكفر ولعنه إياهم وتوعده لهم بالمصير الأسود، أن يُقال إنه لا فرق بينهم وبيننا إلا كالفرق بين المسلم المتمسك بالكتاب والسنة والمسلم المبتدع؟ وهل يُعقل أن نصدق دعواهم بأنهم مؤمنون مخلصون ، والنصارى منهم يكفرون بمحمد ويؤلهون المسيح ويقولون بالتثليث ويحللون الخنزير، واليهود يكفرون بالمسيح ويقولون عنه إنه ابن زنا، كما يكفرون بمحمد ويكذِّبون القرآن الذي أنزله الله عليه زاعمين أنه من تأليفه؟ كيف غاب بالله عن محمد عبده قوله سبحانه في أهل الكتاب أنفسهم: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا" (النساء: 150 - 151)، أو قوله تعالى : "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة: 29)، أو قوله عز شأنه، تعليقا على ابتهال طائفة من قوم موسى أن يكتب لهم سبحانه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، إن "عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف: 156 - 157)؟ ألم ينبئنا القرآن أن الله قد لعنهم وجعل قلوبهم قاسية لنقضهم الميثاق القاضي بأن يؤمنوا بجميع رسل الله؟ أم تری محمدا ليس من رسل الله هؤلاء؟ أم إن اللعنة الإلهية ليست شيئا يعتد به فهی مجرد كلمة والسلام لا يترتب عليها أي شيء؟ ألم يقرأ الشيخ محمد عبده قوله جل شأنه في حق اليهود منهم: "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ (هو القرآن الكريم) وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ (أي كانوا يقولون لأهل المدينة قبل مبعث النبي: إننا ننتظر نبيا يُبعث هذه الأيام،
وسوف نتبعه ونحاربكم ونقضى عليكم) فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ (أي جاءهم النبي الذي كانوا ينتظرونه، وهو النبي محمد) كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ" ( البقرة: 89 – 90) " وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ (الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ" (البقرة : 99) ؟ ألم يقرأ قوله عمن ينسبون إلى الله ولدا ويسمع ما فيه من دمدمة وغضب ترتجف له السموات والأرضون والجبال: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا" ( مريم: 88- 93)، أو قوله عن عيسى عليه السلام: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" ( مريم: 34 – 39)؟ أفبعد هذا يصح أن يقول قائل إن في أهل الكتاب مؤمنین مخلصين رغم جحدهم لرسالة محمد وقرآنه؟
أما رده على صاحبي تفسير الجلالين اللذين يريان عن حق أن المقصود بالأمة القائمة من أهل الكتاب في آية " آل عمران" التي سبق ذكرها هم المؤمنون منهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وقولُه إن "المسلمين لا يُمدَحون بوصف أنهم أهل الكتاب ، وإنما يُمدَحون بعنوان المؤمنين" فتخطئته سهلة ويسيرة ومن سورة آل عمران ، ذاتها ، فنحن نقرأ في الآية قبل الأخيرة منها ، والخطاب فيها للرسول والمسلمين: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا "( الغريب أن الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه الآية لم يجد فيها تخطئة لملاحظته التي رد بها على الجلالين (انظر الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده / 5/ 160 – 161)
ومعنی إيمانهم "مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ "، أنهم يؤمنون بالرسول والقرآن، أي مسلمون . ومعنی: "لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا "، أنهم لم يجحدوا ما في التوراة من بشارة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم بل آمنوا به غیر جاعلين لعَرَض الدنيا القليل الفاني أي اعتبار. فهذه آية قرآنية لا تحتمل الجدال استعملت عنوان "أهل الكتاب" للمسلمين مِن هذه الطائفة. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة ( البقرة ) : "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (البقرة: 119 – 121)، حيث سمى الله المسلمين مِن أهل الكتاب ب "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ "( وهنا أيضا لم يتبين الشيخ محمد عبده أن الآية تناقض ما قاله في رده على الجلالين، انظر الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده /4/ 293 - 294 عند تفسيره لهذه الآية)، وهی مثل "أَهْلَ الْكِتَابِ"، بالضبط . ومثله قول رب العزة : "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ" (الرعد: 36) ، وفرحهم لا يدل على إيمانهم فقط بل على شدة توهج هذا الإيمان في نفوسهم وسعادتهم به. ومثله كذلك قوله عز وجل عن بني إسرائيل : "فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ "(القصص: 48 - 53) وقوله سبحانه مخاطبا رسوله محمدا : "وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ۚ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ" ( العنكبوت: 47) . وقد وصفهم هنا أيضا بـ "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ"، كما وصفت الآية 82 من سورة المائدة ، مَن وفدوا من النصارى على النبي وأعلنوا إسلامهم عند سماعهم القرآن بـ "الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ"، ولم يسمهم و المسلمين، ، وذَكرتْ أن فيهم قسيسين ورهبانا مع أنهم بإسلامهم لم يعودوا قسيسين ولا رهبانا وانقطعت صلتهم بالنصرانية . فما المشكلة إذن؟
كذلك لو كان صحيحا القول بأن الفرق بين المسلم والكتابي لا يزيد عن الفرق بين المسلم المتمسك بالكتاب والسنة والمسلم صاحب البدعة لأحل الله زواج الكتابي بالمسلمة مثلما يحل زواج المسلم المبتدع بالمسلمة غير المبتدعة.
ثم إنَّ الفرق بين المسلم والكتابي لا ينحصر في عدم إيمان الأخير بمحمد: فاليهود يكفرون بالمسيح أيضا ويشربون الخمر، فضلا عن تحريفهم التوارة وحشوها بالكفريات والوثنيات التي تسيء إلى الذات الإلهية إساءة لا تغتفر والجرأة الوقحة على مقام الأنبياء والرسل، الذين يصورونهم في كتابهم المقدس على أنهم كذابون وقتلة وزناة وشريبو خمر ولصوص ... إلخ. أما النصاری فهم، إلى جانب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، يُؤلهون المسيح ويُثلِّثون ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر ولا يختتنون... إلخ. فهل بعد هذا كله يمكن القول بأن الفرق بين أهل الكتاب والمسلمين لا يزيد عن الفرق بين المسلمين المتمسكين بالكتاب والسنة والمسلمين أصحاب البدعة؟
يتضح مما سبق أن الشيخ محمد عبده قد جانبه الصواب تماما فيما قاله بشأن هذه المسألة، والواقع أنه ليس لكلامه إلا معنى واحد هو أن الإسلام على أحسن تقدير لا يعدو أن يكون "شُرَّابة خُرْج" أي مجرد حِلْيَة إن اتخذها الإنسان فأهلا وسهلا، وإلا فلا ضرر عليه ولا خسارة. أليس يكفي في نظر الشيخ أن يؤمن اليهودي والنصراني بدينه ويعمل صالحا؟ فما وجه الحكمة إذن في إرسال محمد بدين جديد؟ وماذا نفعل بالآيات القرآنية الكثيرة التي تُكفِّرهم وتلعنهم وتدمدم بغضب الله عليهم وتتوعدهم بالخزي في الدنيا والجحيم في الآخرة؟ أتكون بعثة محمد وما ترتب عليها من رجة عنيفة في الجزيرة العربية والعالم كله وما تبعها من اضطهاد المسلمين والتنكيل بهم وتقتيلهم وإخراجهم مِن أوطانهم وبيوتهم وحروبهم مع المشركين أولا ثم مع أهل الكتاب والمجوس والترك وغيرهم ثانيا وما أحدثته في تاريخ الدنيا من تغيرات حضارية خطيرة، أيكون منتهى ذلك کله أنَّ من يؤمن بمحمد مِن أهل الكتاب فبها ونعمت، ومن لم يؤمن به فمصيره إلى الجنة ما دام يعمل صالحا؟ وكيف يتسق القول بذلك مع عالمية الإسلام الثابتة بالقرآن والسنة ثبوتا لا يستطيع أحد، مهما كان إنكاره لمحمد ولرسالته، أن يشكك فيه؟ على أن القول بذلك لا يلغي عالمية الإسلام فقط بل يجعل وجوده وعدمه سواء كما بينا، إذ يكفي أن يكون الإنسان يهوديا أو نصرانيا أو يلحق بهما إن كان في الأصل مشركا أو مجوسيا أو بوذيا أو شيوعيا... إلخ .
على أن الأمر لا يقف عند محمد عبده، فإن د. محمد عمارة يمضي في نفس الطريق مثنيا على الشيخ لقوله هذا الكلام الذي يَعُدّه هو من أهم الإسهامات التي قدمتها مدرسة التجديد الديني في عصرنا الحديث خدمة للوحدة الوطنية والقومية ( انظر د. محمد عمارة / تجديد الفكر الإسلامي - محمد عبده ومدرسته، کتاب الهلال ( العدد 360 ) ديسمبر 1980 م / ص 79 – 80 )، يقصد أن كلام محمد عبده من شأنه تدعيم الوحدة الوطنية بما يُرسبه مِن أسس المودة والتقارب بين المسلمين ومواطنيهم من اليهود والنصاری. والحق أن الوحدة الوطنية لا تُخْدَم بالتفاف المسلمين حول مبادئ دينهم وليِّهم الآيات القرآنية مِن أجل إرضاء الآخرين الذين لن يتنازلوا بأي حال عن رأيهم في محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعونه عليه من أنه نبي مزيف وأن القرآن الذي نزل عليه هو من صنيعه أو أنه في أحسن الأحوال شخص معتل الأعصاب كان يتوهم أنه نبی يُوحَى إليه. إنما تُخْدَم الوحدة الوطنية باعتراف كل فريق بحق الآخرين في الوجود واحترام شعائرهم وأوضاعهم الدينية وعدم التفكير في الاعتداء عليهم أو على دور عبادتهم أو حتى مشاعرهم، كما تتحقق الوحدة الوطنية بالتساوى التام أمام القانون. أما أن يتنازل المسلمون، والمسلمون وحدهم، عن مبادئ دينهم وما يقوله ربهم في قرآنه الكريم فهذه ليست وحدة وطنية بل استخذاء وضعفا ومذلة وتكذيبا بالرسول وبالكتاب الذي أُنزِل عليه.
وللدكتور محمد عمارة نفسه كلمة في هذا السياق تستحق نقلها، وهذا نصها: « إن المساواة في حقوق المواطنة، بصرف النظر عن اختلاف الدين، ليست مجرد حق من حقوق الإنسان قد يُمْنَح أو يُمْنَع، وإنما هي بنظر الإسلام حق إلهی وفريضة سماوية بحكم الخلق الإلهي للإنسان. فكل مخلوق لله يجب له التكريم، والمساواة في المواطنة مظهر من مظاهر هذا التكريم الإلهي للإنسان، مطلق الإنسان. فالتكريم الإلهى ليس حكرا لأبناء دین بعينه، وإنما هو لكل بنی آدم: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"(الإسراء: 70). والإسلام لا يقول فقط إن: "الوطن للجميع ، بل يجعل كل الأرض لسائر الأنام:"وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ" (الرحمن: 10) .
بل إن الإسلام يرقي على هذا السُّلَّم إلى الحد الذي لا يجعل فيه التعددية الدينية، ومن ثم التعايش بين فرقائها "واقعا" يعترف به ويتعايش معه بل يعتبرها القانون الإلهي الأزلى الأبدي الذي لا تبدیل له ولا تحويل، فلقد شاء الله ألا يكون الناس ملة واحدة ولا شريعة واحدة، وإنما أراد اختلافهم ليتدافعوا ويتسابقوا على طريق الخير وفي ميادين الحق والاجتهاد : "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود: 118 - 119)، أي "وللاختلاف خلقهم"، كما يقول المفسرون. فالاعتراف الإسلامي بالآخر الديني ليس مجرد تسامح وحق مِن حقوق الإنسان، وإنما هو إرادة إلهية مؤسسة على سنة الاختلاف في الملل والشرائع: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (المائدة: 48). وإذا كان الإيمان بشیء یعنی بالضرورة الكفر بنقيضه حتى ليجتمع "الإيمان" و "الكُفر" ، في كل إنسان: المؤمن بالليبرالية كافر بالشيوعية، والعكس صحيح، والمؤمن بالديمقراطية كافر بالفاشية، والعكس صحيح، والمؤمن بالله كافر بالطاغوت، والعكس صحيح: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ" (البقرة: 256)، فإن عظمة الإسلام تبلغ في الرقي إلى الحد الذي جعل فيه حماية الكافرين به وتأمين قيامهم بالعقائد الكافرة به دیناً يتدين به أبناؤه وجزء من إيمانهم الإسلامي بدونه لا يكتمل هذا الإيمان! ولذلك فإن إيماننا بظهور الإسلام على الدين كله لا یعنی انفراد الإسلام بالبشرية جمعاء، فهذا مناقض للقانون الإلهي في الاختلاف. وظهور الإسلام هو ظهور مناهجه وحلوله لمشكلات البشر حتى عند الذين لا يؤمنون به کدین" ( د. محمد عمارة / هذا ديننا / جريدة الشعب- الثلاثاء 28 إبريل 1998 م / ص 12).
إن الدكتور محمد عمارة يتخذ من قيام الحياة الدينية على التعدد واعتراف القرآن بذلك في قوله تعالى في هذا القضية: "وَلاَ يَزَالُونَ ( أي البشر ) مُخْتَلِفِينَ" (هود: 118) مُنطلقا إلى القول بأن كل دین مِن شأنه أن ينجي أصحابه إذا تمسكوا به وعملوا صالحا(انظر د. محمد عمارة: الإسلام والوحدة الوطنية - کتاب الهلال ( العدد 338 ) فبراير 1979م م ص 55 وما بعدها).
مع أنه لا تلازم بين هذا وذاك، إذ كثيرا ما يكون الواقع شيئا والصواب شيئا آخر: فالكفر مثلا موجود في الأرض ولن يزول منها، فهل معنى ذلك أنه مقبول مِن الله وينبغي مِن ثم أن يكون مقبولا مِن المؤمنين فلا يروا فيه غضاضة؟ وعلى ذلك قس الجرائم والأمراض والكوارث الطبيعية والاستبداد والفوارق الطبقية المجنونة... إلخ . ثم إن تتمة الآية القرآنية هي: "وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ"، وهذا معناه أن رحمة الله لن تنال كل المختلفين بل الذين منهم على صواب فقط.
كما أن القرآن الكريم في مواضع متعددة قد أنبأنا أن الله سيحكم يوم القيامة بين الرسول ومخالفيه مِن أهل الكتاب، ومعلوم أن الحكم يستلزم وجود خصومة وحسمها لصالح أحد الطرفين فينجو المحكوم له على حين يذهب المحكوم عليه إلى السعير. إننا مع الأستاذ الدكتور في أنه لا يصح أن يجبر المسلمون غيرهم على الدخول في دينهم، وإن كان الحق يقتضينا القول بأن المسلمين لا خوف منهم في هذا المجال على غيرهم، إذ إن القرآن يرفض إكراه شخص على دخوله رفضا باتا، وكذلك لم يحدث أن أكرهوا هم أحدا على ترك دينه واللحاق بهم مع أن العكس قد حدث ويحدث كثيرا.
ومما يحتج به الدكتور عمارة لدعواه قوله إن القرآن يسمى كل الأنبياء السابقين على رسولنا الكريم هم وأتباعهم به "المسلمين"، كما يُسمی دین كل واحد منهم به الإسلام، ومن ثم فإن قول الله مثلا : "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ"(آل عمران: 19)، "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (آل عمران: 85) ليس معناه أن أتباع محمد وحدهم هم الناجون يوم القيامة بل يشركهم في هذه النجاة أتباع كل رسول آخر رغم عدم إيمانهم بمحمد، فالإسلام هو توحيد الله وطاعته لا أكثر! (د. محمد عمارة - الإسلام والوحدة الوطنية ص47 وما بعدها).
وهذا كلام غير صحيح على إطلاقه، إذ إن الناجين من أتباع موسی هم فقط الذين لم يدركهم عیسی عليه السلام ، وبالمثل فإن الناجين من أتباع عیسی هم فقط الذين سبقوا بعثة محمد. ويلحق بهؤلاء وهؤلاء من جاؤوا بعد الرسول الكريم ولكنهم لم يسمعوا به، أو سمعوا به من رؤسائهم وعلمائهم سماعا من شأنه أن ينفِّرهم منه ومن دینه بسبب الأكاذيب والمفتريات التي يخترعها أولئك الرؤساء والعلماء ضده، لكن بشرط ألا يكونوا قادرين على تمحيص ما يسمعون، وإلا فكيف يكون الإنسان مسلما وهو يكفر بما أمره به ربه من الإيمان بكل واحد من رسله؟ أم ترى إرسال الرسل هو مجرد تضييع وقت من السماء؟
وفي شرح د. عمارة لكلمة "مُهَيْمِنًا"، في قوله تعالى عن القرآن مخاطبا رسوله عليه السلام : "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة: 48) نراه ينتقي الآراء التي تفسرها بمعنى أن القرآن مصدق للكتب السابقة أو مؤتمن أو شاهد عليها أي على صدقها(الإسلام والوحدة الوطنية / 45 - 46.
) ، مع أن المتبادر إلى الذهن أن القرآن هو السلطان الذي يُرْجَع إليه والمقياس الذي يُلْجَأ إليه لمعرفة مدى صدق هذه الكتب أو انحرافها، إذ هذا ما تقوله اللغة وما يقوله الواقع والقرآن نفسه وكذلك الدراسات العلمية التي تناولت الكتاب المقدس. وقد عدّ قبلاً رشید رضا ذلك التفسير (الذي يتبناه د. عمارة) مِن الغرائب، قائلا : "ومِن الغرائب أن بعض المفسرین فهم مِن هيمنة القرآن على الكتب التي قبله أنه يشهد لها بالحفظ مِن التحريف والتبدیل! واللفظ لا يدل على هذا المعنى . فإذا كان معنى المُهيمن"الشهيد" فهل يصح أن يتحكموا في شهادته كما يشاؤون؟ أم الواجب عليهم الرجوع إلى ما قاله في شأن هذه الكتب وأهلها لأنه هو نص شهادته لها ولهم أو عليها وعليهم؟ والقرآن يُفسر بعضه بعضا، وحَسْبُهم أنه قال في هذه السورة في كلٍّ مِن أهل التوراة والإنجيل إنهم "نَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ"، كما قال في سورة النساء، قبلها إنهم "أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ"، وقال فيهما جميعا إنهم كانوا "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ"... إلخ (تفسير المنار / العدد ۲۹ / ص 340).
ومما يحاول به كذلك د. عمارة تزيين دعواه قوله إن القرآن قد فرق بین المشركين وأهل الكتاب أيضا في مسألة القتال، إذ أمر الرسول فيه بقتال المشرکین كافة مثلما قاتلهم المشركون كافة، على حين أن كل ما قاله في الذين كفروا به من أهل الكتاب : ِ"إنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ" (د. محمد عمارة: الإسلام والوحدة الوطنية / ص 49 - 50) . وهذه أيضا شبهة لا أساس لها، فقد قال القرآن أيضا في المشركين : "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" (الحجر: 94 - 96) ، و" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر: 36). المقصود بـ "عبده" ، هنا هو الرسول عليه الصلاة والسلام، والكلام في الآية عن المشركين، كما أمر سبحانه بقتال أهل الكتاب: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة: 29) . وقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير ويهود بنی قريظة ويهود خيبر، كما أرسل جيشه مرتين لمقاتلة النصارى في تبوك ومؤتة. وهذا كله مذكور في القرآن، فماذا إذن؟ كما أن القتال الذي شجر بين المسلمين وأهل الكتاب بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يفوق ما كان بينهم وبين مشرکی العرب أضعافا مضاعفة. لقد قال الله لنبيه : "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ" ( بالنسبة للمشركين ) و"فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ"، (بالنسبة لأهل الكتاب) في سياق ، وأمره بقتال كلٍّ منهم في سياق آخر. والإسلام لا يمكن أن يكون مُسالما في كل الظروف ولا محاربا في جميع الأحوال، بل للسلم وقت وللحرب وقت مثله، وهذا هو مفتاح القضية وتفسيرها، وما عدا ذلك هو خداع للنفس أو غش للآخرين .
ومِن المسلمين المحدثين القائلين بهذا أيضا الصادق مازيغ الكاتب التونسي الذي ترجم القرآن إلى الفرنسية، فقد قال في تعليقه على آية سورة البقرة، ما ترجمه: "إننا لا نعتقد بوجوب حصر هذه النجاة في اليهود والنصارى والصابئين السابقين على الإسلام فقط ، وإلا أزلنا عن الآية طابعها العالمي الشديد التميز . وعلى هذا فالنصارى المقصودون هنا هم النصارى بوجه عام بشرط أن تكون نصرانیتهم هي : النصرانية الصحيحة التي أتى بها عيسى لا التي لحقتها التحريفات من بعد. ونفس الشيء ينطبق على اليهود جميعا بشرط أن يكونوا مستمسكين بالتوراة الحقيقية. أما الصابئة فهم طائفة صغيرة يجمع دينها بين اليهودية والنصرانية. أما الآية الخامسة والثمانون من سورة آل عمران (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فلا تعارض في رأينا هذه الآية في شيء، إذ هي خاصة بالمرتدين عن الإسلام أو الذين يرفضون عن عمد الدخول فيه.
(Sadok Mazigh , Le Coran, Maison Tunisienne de l'édition,
- 48, n. 7.).
هذا ، وقد سبق أن فهم بعض المستشرقين الآية التي نحن بصددها هذا الفهم الخاطئ . جاء في ترجمة چورچ سیل عند تعليقه في الهامش على الآية المشابهة لآيتنا هذه في سورة ( "البقرة": مِن كلمات هذه الآية التي تكررت في سورة المائدة، يستنتج بعض الكتاب خطأ أن المسلمين يؤمنون بأن الدين الذي أتاهم به نبيهم يؤكد أنه في مستطاع كل إنسان أن ينجو يوم القيامة رغم بقائه على دينه بشرط أن يكون مخلصا في إيمانه وأن يعمل صالحا، ، ثم يمضي سيل مخطئا هذا الفهم الذي وقع فيه بعض رُصفَائه مِن المستشرقين قائلا إن المفسرين المسلمين، وإن وافقوا على هذا التفسير، فإنهم يؤكدون أن هذا الحكم سرعان ما نسخ بالآيات التي تشترط للنجاة اعتناق الشخص للإسلام.
(Sale's Koran , p. 8, n. Y)
ومِن المستشرقين الذين فهموا هذا الفهم أو قاربوه المستشرق کازیمریسکی، الذي كتب في ترجمته الفرنسية للقرآن معلقا على آية سورة "البقرة" المذكورة: "إن المرء لَيَوَدّ أن يستنتج مِن كلمات هذه الآية أن بمستطاع البشر من أي دين الحصول على النجاة (في اليوم الآخر) ما داموا يؤمنون بالله وحده ويعملون الصالحات" لكنه يسارع أيضا فيستدرك قائلا : "بيد أن إجماع المفسرين منعقد على رفض هذا الفهم، إذ يقولون إن الآية التاسعة والسبعين من سورة : آل عمران - يقصد الآية 85، ونصها: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"- قد نسخت الحكم الوارد في هذه الآية، إذ جعلت اعتناق الإسلام شرطا جازما للنجاة.
(Kasimirski, Le Coran, Garnier - Flammarion, Paris, p. 46,
- 1.)
وقد سبق أن عرضنا لدعوى النسخ هذه وفندناها فيما سبق من صفحات.
وأخيرا فإن مغزی ذكر الآية لليهود والنصارى والصابئين وعدم الاكتفاء بالقول بأن الإيمان بالله واليوم الآخر يُنجي صاحبه مِن عذاب الله ويدخله جنة النعيم هو التنبيه العملي إلى أن نعمة الإسلام ليست مقصورة على العرب وحدهم بل هي متاحة لكل من يفتح عقله وقلبه لها. على عكس ما يؤمن به اليهود مِن أنهم هم وحدهم الناجون، أما غيرهم من الأم
والشعوب فهم وقود النار ، فجاء القرآن مبينا أن العبرة ليست بالجماعة التي ينتمي إليها الإنسان بل بجهده الذاتي واخلاصه في إيمانه وعمله.
وقد جاء شیء قريب جدا مِن ذلك فيما يتعلق بالنصرانية في رسالة بولس إلى أهل رومية، وهو: " أَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ (أي بالرب) لاَ يُخْزَى. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبّاً وَاحِداً لِلْجَمِيعِ غَنِيّاً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ (رسالة بولس إلى أهل رومية 10: 11 - 13 والمقصود بالرب هنا هو عيسى عليه السلام، أستغفر الله !).
وفوق ذلك فالكلام ، فيما هو واضح، يوجب الإيمان بالنصرانية تحديدا لا بأي دين آخر يشتمل على الإيمان بالله . وكذلك الأمر في الآية القرآنية الكريمة، إذ لا بد مِن الدخول في الإسلام والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه والاعتقاد بعقيدته والأخذ بشريعته.
ومما يتعلق بأهل الكتاب أيضا مِن موضوعات سورتنا ما جاء في الآية 116 إشارةً إلى عباده طوائف من النصارى لمريم مع ابنها المسيح عليهما السلام: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" وسبب وقوفی عند هذه النقطة أنني قرأت في السبعينات في مدينة أكسفورد کتابا لمستشرق بريطانی يُنكر تمام الإنكار عبادة النصارى لمريم ويتهم رسولنا الكريم، الذي يزعم المستشرقون أنه هو مؤلف القرآن، بأنه إنما استقى مثل هذه المعلومة مِمن كان يختلط بهم ويأخذ عنهم أفكاره مِن العوام الجهلة. كما جاء في مادة "مریم" بـ "الموسوعة العربية الميسرة"، أنها عليها السلام لیست موضوع عبادة لأنها مخلوقة، بينما العبادة للخالق وحده (الموسوعة العربية الميسرة - دار الشعب - مادة "مريم" / 1689). وفي صياغة الكلام على هذا النحو غمز ولمز للقرآن الكريم سوف يتضح بعد قليل أنه على غير أساس البتة. وفي مقال له بمجلة الهلال، عدد دیسمبر 1970م ينفي الأنبا شنودة الثالث أن يكون النصارى قد عبدوا في يوم من الأيام مريم ، أما "إن كانت قد قامت بدعة تُنادی بتأليه العذراء فإن المسيحية تُحاربها بكل قوة".
كذلك ففي مقالة "مریم" بـ "دائرة المعارف الإسلامية" الاستشراقية نجد کاتبها يجهد نفسه في إثبات خطأ القرآن الكريم في نسبة تألیه مريم إلى النصارى، قائلا إن الرسول ربما تأثر في تصوره ذاك بتبجيل الكنيسة لمريم أو ربما كان ذلك استنتاجا منه سببه الخلط بين عيسى والروح القدس مما ترتب عليه خلو موضع من المواضع في الثالوث النصرانی بدت له مریم جديرةً بملئه.
(Shorter Encyclopaedia of Islamn, edited by Gibb and
Kramers. Brill & Luzac , 1961, p. 328).
والحقيقة أن القرآن الكريم لم يقل بالنص إنَّ "النصارى" قد عبدوا مریم مع المسيح ، إذ الكلمة المذكورة في الآية هي "الناس" لا النصارى: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" وعلى هذا فلو افترضنا أن النصرانية لم ولن تعرف عبادة العذراء ما كان على القرآن مِن بأس فيما قال ، إذ كان ولا يزال هناك طوائف مهولة مِن البشر يُقدِّسون مريم ويرفعون إليها الصلوات والأدعية، وهي ألوان من العبادة لا شك في هذا، وبعضهم كان يؤلهها فعلا .
لكن ألم يعرف النصارى أنفسهم عبادة مريم ؟ إن كلام المستشرق کاتب "دائرة المعارف الإسلامية" السابق يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك، لكن الذي يمضي في قراءة المقالة يجده يعترف بأنه كان هناك فعلا مِن النصارى مَن يعبدون العذراء عليها السلام ويتخذونها إلها جاعلين منها أحد أقانيم الثالوث.
إذن فلماذا أجهد ذلك المستشرق نفسه كل هذا الإجهاد ليُدخِل في روع القارئ المسكين أنَّ محمدا حينما أشار في قرآنه إلى تأليه فريق مِن النصارى لمريم لم يكن هناك مِن النصارى مَن يصنع ذلك فعلا بل كان ذلك خطأ منه في التفكير والاستنتاج؟ الجواب هو أن ذلك المستشرق قد عزَّ عليه أن يفضح القرآن مثل هذه الخبايا فأراد أن يُسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي نزل عليه، على طريقة الثعلب عندما عجز أن يبلغ في قفزته عنقود العنب المتدلي مِن الكرمة فقال وهو يشيح بوجهه عنه: إنه ليس عنبا بل حصرم!
وما قاله ذلك المستشرق عن عبادة طوائف من النصارى لمريم عليها السلام يقوله " معجم الكتاب المقدس: Dictionary of the Bible "
(Edited by William Smith, London, 1863).
"Mary the Virgin": في مادة
وقد نقل د. على عبد الواحد وافي عن يوحنا البطريق أنه كانت هناك فرقة من النصارى تُسمى: "البريرانية" ، تؤله المسيح وأمه معا (أنظر د. على عبد الواحد وافي- الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام- دار نهضة مصر - القاهرة / ص 107).
وبمثل ذلك تقول د. ماسّون المستشرقة الفرنسية أثناء تعليقها على هذه الآية الكريمة في ترجمتها الفرنسية للقرآن. وهي تضيف أنه قد اصطلح على تسمية هذه العبادة التي ثارت عليها الكنيسة البروتستانتية بـ "المريمية"
(Masson, le Coran, I, n. 116)
ويستطيع من يريد أن يرجع أيضا إلى مادة "Mary" في " موسوعة الدين والأخلاق : Encyclopaedia of Religion and Ethics " ولسوف يقرأ كلاما كثيرا عن شعائر العبادة لمريم وكيف نشأت وتطورت على مر العصور عند الكنائس النصرانية المختلفة، وكيف ترفع الصلوات إليها ويُطلب منها ما ينبغي ألا يطلب إلا مِن الله سبحانه ويُخلع عليها مِن الصفات ما هو مِن حقه تعالی وحده.
(Encyclopaedia of Religion and Ethics , edited by James
Elastings, Edinburgh, 1971, vol. 8, pp. 474 - 480)
كذلك ففي ، الموسوعة البريطانية : -Encyclopaedia Britanni ca ، حديث طويل عن عبادة النصارى لمريم بوصفها أم الإله ، إذ يصلون لها ويُسبِّحونها ويتجهون إليها بالأدعية والمطالب المختلفة لتحققها لهم.
(Encyclopaedia Britannica - Macropaedia, 15th edition, vol.
11, pp. 560 – 562)
وفي و موسوعة كولييه :
Collier ' s Encyclopaedia ، نقرأ أنه: و قد ترتب على کون مريم أم الإله أنها فاقت في النبل جميع البشر واحتلت من حيث القداسة المكانة التالية مباشرة لابنها الإله. وقد كرمتها الكنيسة وميزتها بتمجيد خاص يختلف عن ذلك الذي خلعته على القديسين الآخرين... وكذلك ميزتها بالعبادة، التي هي مِن حق الله وحده... إلخ".
(Collier's Encyclopaedia, 1973, vol. 15, p. 470)
ويوضح أبو الأعلى المودودی أن الكنيسة كانت تعارض في البداية تألیه مریم وتَصِم مَن يفعلون ذلك بالهرطقة. غير أن الأمور، كما قال، قد تبدلت في سنة 431 م عند انعقاد مجمع إفسس، إذ أخذت الكنيسة تستعمل اسم: أم الإله، لمريم عليها السلام، كما أخذت عبادة مريم تنتشر بسرعة داخل الكنيسة نفسها حتى لقد غطت أهميتها على أهمية الآب والابن والروح القدس، وكذلك أقيمت لها التماثيل في الكاتدرائيات. وقد ذكر، رحمه الله، أسماء عدد من الأباطرة والقواد الرومان الذين كانوا يؤمنون بأن منها عليه السلام الحماية والنصر، شأنهم في ذلك شأن عامة النصاری(وبالمناسبة فبابا روما يوحنا بولس الثاني، يُؤمن بأنها هي التي حفظت حياته من محاولة اغتياله عام 1981م ودائما ما كان يستخدم في وصفها كلمات مثل: الوسيطة أو الشفيعة، ( مِن مقال سيد جبيل. البابا يحث المساواة بين مريم العذراء والمسيح جريدة الدستور عدد 27 أغسطس 1997م ص 3) .
كما ذكر ثورة البروتستانت على هذه العقيدة المريمية وأن الكنيسة الرومية الكاثوليكية رغم ذلك قد ظلت متمسكة بهذه العقيدة على نحو أو على آخر.
(Sayyid Abul A'lâ Mawdûdi, Towards Understanding the
Qur'an, vol. II, pp. 206 - 207 .)
أما قول بلاشير إن القرآن الكريم قد عمم هنا على جميع النصارى ما كانت تعتقده طائفة منهم فقط، ومن ثم لعنهم جميعا بدلا من لعنها هي وحدها.
(Régis Blachère, Le Coran, p. 144, n. 77)
فهو قول طائش، إذ كل ما في القرآن هو سؤاله سبحانه للمسيح عليه السلام: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ"؟ وليس "أأنت قلت لجميع النصاری" ؟
والمعنى: « أنت قلت للناس الذين يُؤلهونك أنت والدتك: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ ، أي أن الألف واللام في "الناس" للعهد. وقد تكرر هذا في القرآن مثل قوله تعالى "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ" (آل عمران: 173)، "إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ" (النساء: 133) ، و :"لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ" (يوسف: 46)،و "فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ" (الفتح: 20)
وسوم: العدد 888