هل تكفي عشر سنوات من عمر الثورة للقضاء على الفساد ومظاهر الاستبداد ؟
ونحن على مشارف الاحتفال بالذكرى العاشرة للثورة، لا يزال السواد الأعظم من النّاس، تحت تأثير الإعلام المعادي للثورة، يرفعون أصواتهم بقوّة ويحتجّون بالقول "لم نر من الثورة ثورة على الفساد والتخلّف ولم نر من الثورة تنمية ومواطن شغل. بل لقد ازداد الفساد انتشارا والنموّ تقلّصا. وتراجعت التنمية تراجعا ملحوظا بالنظر لما كانت عليه قبل الثورة ".
وهذا التشخيص صحيح إلى حدّ ما. لأنّ الظرفية الآن غير الظرفية قبل الثورة. فمناخ الحرّية غير مناخ الاستبداد. فالتنمية بالتّأكيد تراجعت وفرص الشغل تقلّصت. إلاّ أنّ ذلك لم يكن المسؤولون عنه المنتخبون حصرا. ذلك أنّ المنظومة القيمية برمّتها والموجّهة لكلّ مناحي الحياة والتي ورثناها عن الاستبداد هي المتسبّب الرئيس فيما نحن فيه من تدهور معيشي وفساد وتراجع نسب نمو. فالثورة ليست إسقاطا من السماء تصنع من المواطن العادي منه ثوريا بين ليلة وضحاها. ولكنّها بالأساس إحساس وشعور ومخاض داخلي وتحوّلات نفسية تدفع باتجاه الثورة على كل مظاهر الفساد والاستبداد المتراكمة من زمن الاستبداد. قال الله تعالى "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد).
فالثورة اندلعت، بداية، بسلوك احتجاجي على موظّف بلدي أدّى إلى وفاة المحتج بعد أن أضرم النار في نفسه. ولكن هذه الثورة ورغم مرور عشر سنوات على اندلاعها لم تغيّر إلى حد الآن من سلوكيات المواطنين والمسؤولين على حد سواء. فنفس الموظّف البلدي بولاية أخرى (القصرين) تسبّب ثانية وبعد عشر سنوات في وفاة مواطن داخل كشك بعد أن تمّ هدمه فوق رأسه بقرار من الولاية أو من البلدية على الساعة الثانية ليلا دون إشعار المواطن المعني بذلك. وهو لعمري نفس السلوك الذي كان يقدم على فعله المستبد حيث كان يرسل أعوانه ليلا لترويع المناضلين وهرسلتهم والقبض عليهم والزّجّ بهم في غياهب السجون بدعوى أنّهم معارضون ومتطرّفون بل وإرهابيون !!!
فها نحن مواطنون وسياسيون وحكّاما ومحكومين نعيش زمن الثورة ونعبّر عن آرائنا وأفكارنا بكلّ جرأة وحرّية ونطالب بكلّ حقوقنا بدون خوف ولا وجل. ونرفع شعار "الشغل استحقاق يا عصابة السرّاق". ولكن بمجرّد أن تعترضنا الصعوبات والعراقيل التي تحول دون تحقيق مطالبنا نلتجئ إلى السلوكيات الاستبدادية الدفينة التي ترسّخت في لا شعورنا من زمن الاستبداد من مثل ملاحقة وهرسلة المعارضين والمخالفين ليلا ومن مثل دفع رشوة لقضاء حاجة أو لبناء كشك بدون رخصة أو للظفر بشغل في الوظيفة العمومية بدون اتّباع أدنى التراتيب القانونية الموجبة.
فالمستبدّ قبل أن يرحل وعلى مدى عشرات السنين من هيمنته على الحكم ساهم في تركيز مظلّة من السلوكيات الاستبدادية،في شتّى المجالات والقطاعات، والتي لا يمكن أن نخترقها أو نتجاوزها أو نفلت من قبضتها، حكّاما ومحكومبن، بدون التحمّس والتجرّؤ على اختراقها وتفجيرها والعمل على تجاوزها بكل السبل المتاحة على مدى عقود طويلة. يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي : " إنّ إعادةُ تأهيل الإنسانِ هي أعظمُ وأعقدُ التحدياتِ التي تواجه النظامَ الجديدَ الذي يحكمُ المجتمعَ بعد هلاكِ المستبدّ، لأن المستبدّ يمارسُ تهديمًا متواصلًا لمنظوماتِ القيمِ الأخلاقية والروحية والجمالية بكلِّ تجلياتها، ويعبثُ بكلِّ نظمِ التربيةِ والتعليم والادارة والمال والاقتصاد والاعلام، ويفسد مفاهيمَ الثقافة والآداب والفنون. لا يمكن أن يتغير المجتمع ويتطور مالم يتم تفكيك البنى العميقة الكامنة للاستبداد، وفضح ما يتركه من عناصر مميتة في حياة الفرد والمجتمع. لا يزول الاستبدادُ بزوال المستبدّ، بل بتجفيف منابعه في التربية والتعليم، ونمط التدين، والثقافة والفنون والآداب والإعلام، والعمل على تفكيك كل ما ينتج الاستبداد من بنى عمودية ورأسية راسخة في المجتمع، وإعادة إنتاجها في سياق أفقي".
ويضيف "إن تقويض البنية التي يتركها المستبدّ في كل مرافق حياة المجتمع والدولة يتطلب سنوات طويلة، مهما كان نمط استبداده. يظل المجتمع ينوء بعبء ترسبات الاستبداد، يترك المستبدُّ المجتمعَ منهكًا ينزف، يلبث المجتمعُ منقسنًا على نفسه. حتى لو ذهب المستبدُّ يمكن أن تكون صورة النظام ديمقراطية، إلا أن مضمون هذا النظام يمكث استبداديًا بأقنعة بديلة".
وسوم: العدد 900