العراق: هل مسؤولية رئيس الوزراء تقديم التعازي لا تقديم الجناة؟
في تموز/يوليو الماضي زار رئيس الوزراء العراقي عائلة كاتب مقرّب منه اغتيل بعد عودته من لقاء تلفزيوني. قدّم التعازي لأسرة القتيل قائلا، إننا مصممون بعزم لا يلين على ملاحقة الجناة، وألا تمر هذه الجريمة الجبانة بلا عقاب، وأن سيادة القانون سيكون لها دائما الصوت الأعلى والأخير.. ولم يحصل أي شيء مما قاله حتى اليوم.
وفي شهر آب/ أغسطس من هذا العام ذهب لتقديم التعازي إلى عائلة ناشطة مدنية من أهالي محافظة البصرة، اغتيلت على يد الميليشيات المسلحة، وأقسم (بدم الشهيدة أن المجرمين لن يفلتوا من العقاب مهما طال الزمن) ولم يحصل أي شيء حتى اليوم. وفي 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري زار مجلس العزاء المقام على أرواح ثمانية أشخاص من أهالي محافظة صلاح الدين شمال بغداد، تم خطفهم وقتلهم بدم بارد برصاصات في الرأس والصدر، ثم قال لأهالي المنطقة، إن الدولة ستحميكم.. كيف؟ لا أحد يعرف.
إذن أين الدولة كانت قبل الحادث؟ هل مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها مجرد ردود أفعال؟ الحماية يفترض أن تكون متوفرة قبل الحادث، فتمنع وقوعه وليس بعده. كل هذا دفع الناس للقول، إن كل تعهدات رئيس الوزراء ليست أكثر من كلمات، لأن الإجراء الذي حصل حفظوه عن ظهر قلب وهو إقالة المسؤولين الأمنيين، وتشكيل لجنة لمتابعة الموضوع، يكون قرارها في النهاية تسجيل الواقعة ضد مجهول. هذا هو القاسم المشترك بين كل الجرائم، التي حصلت في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، وهو القاسم المشترك بين فعل كل رؤساء الوزراء للفترة نفسها أيضا، هناك فجوة في بُنية القضية العراقية، لا يريد أي أحد ردمها، لذلك نرى السلوك السياسي يأتي من كل الوجوه المتتابعة على هرم السلطة، يكون في السياق نفسه، وبالروح السائدة نفسها، منذ اليوم الأول للغزو وحتى اليوم. لا أحد يقول بأن عهدي يتطلب نظرة مختلفة وتصديا حقيقيا للعيوب الكارثية. الجميع قالوا إنهم يرفضون الإرهاب والطائفية والفساد وظلم العباد والاضطهاد، لكن ليس هنالك من لديه الإرادة لقبول التحدي، ومحاولة الخروج من الأزمة.. لماذا؟ لأن الجميع من النسيج نفسه ومن المنظومة نفسها.
وفي هذا الجو، لابد لكل من يتسنم منصب رئيس وزراء العراق أن يكون أحد مؤهلاته، هو الرغبة المتزايدة في تجاهل الحقائق، يقابلها أنه غير معني، إن كان العراقيون يصدقون ما يقوله أم لا، لانه يعلم جيدا أن الناس باتوا مستعدين لعدم تصديق أي شيء على الإطلاق، بعد أن سقط اليقين الذي كانوا يعتصمون به، عندما كانوا يريدون دحض تشكيك المشككين في قضية ما، فيقولون إننا سمعنا عكس ذلك من رئيس الوزراء، أو من الزعيم الفلاني أو المسؤول. الآن لم تعد هذه المناصب مرجعا موثوقا به. إن الكلمات تفقد صلاحيتها إن لم تكن مقرونة بالأفعال، وعندها لن تكسر عظام الميليشيات، ولن تهدم أوكار الفساد، وغير قادرة على جرف جحور ناهبي الثروات. إن تحقيق كل ذلك يتطلب إرادة حقيقية لاستخدام العصي السياسية والأمنية والقانونية والاستخباراتية، ناهيك من الحجارة العسكرية، لإجبار الميليشيات والفاسدين على الخضوع والركوع والتأدب، وإحدى السمات المميزة للقائد والزعيم الحقيقي، هي القدرة على إظهار القوة والتأثير في كل عناصر الاضطراب في المجتمع. وبخلاف ذلك فإنه يطحن المجتمع من خلال غضه النظر عن ما تفعله الميليشيات. إنها لعبة عالية المخاطر.. صحيح أن مواجهة الميليشيات أمر شاق سياسيا، وحتى عمليا، لأنها باتت جزءا من قوات الأمن العراقية، لكنه ممكن. أما التخلي عن اتخاذ أي إجراء بهذا الاتجاه، والذهاب إلى الضغط على الناس، من خلال حضور رئيس الوزراء مجالس العزاء، وليس تقديم الجناة، فهو محاولة للضغط على أهالي الضحايا لقبول أدنى فعل.. وهو إجبار لهم على بيعه حقهم في القصاص مقابل تقديمه التعازي لهم.
إحدى السمات المميزة للقائد والزعيم الحقيقي، هي القدرة على إظهار القوة والتأثير في كل عناصر الاضطراب في المجتمع
ويبدو أن هذه هي الطريقة التي يدار بها البلد، وهي إشارة إلى أنه نمط سلوك باهت وغير أخلاقي، مقارنة بالدماء التي تسيل، وليس زلة سياسية يمكن تبريرها.
إن جميع المناصب السياسية في العراق، وفي مقدمها منصب رئيس الوزراء، غادرها المعنى الحقيقي، كمهمة سياسية وفعل اجتماعي ينهض به رجال دولة ذوو مشروع حقيقي، لذلك قبل الجميع بكل ما اقتضت به العملية السياسية، رغم أنهم يعلمون أن وجودهم مجرد حشوة دافعة للذهاب إلى أبعد ما يمكن من الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية لدول خارجية. اليوم باتت هذه المناصب حكرا على مرتزقة السياسة، وخلت تماما من رجال الدولة، وهذا كله بسبب المشروع الأجنبي القائم في العراق منذ بداية الغزو وحتى اليوم، الذي هو ليس معنيا بالمصداقية التي يجب أن يتحلى بها المسؤول، كرأسمال حقيقي يتغذى منه العمل السياسي. ما يهم الفاعلين الخارجيين، الذين صاغوا النظام القائم، هو أن يكون هنالك رئيس جمهورية كردي، ورئيس وزراء شيعي، ورئيس برلمان سني، كي يستطيع كل واحد من هؤلاء مخاطبة جمهوره الطائفي مباشرة، ويدغدغ عواطفهم ويتملق لهم ويخدعهم، من أجل تحشيدهم وتجييشهم لتحقيق سياسات مرحلية وليست منهجية. فلا العامل الخارجي ولا الفاعلون المحليون يريدون المواطنة كنظام اجتماعي سياسي، لأنهم يعلمون أن بناء المواطنة يتطلب بناء الدولة الوطنية الحديثة، التي هي دولة المؤسسات القائمة على أساس العقد الاجتماعي، وحاكمية القانون، والحقوق المدنية والسياسية. وهذه كلها ذات كلف خطيرة على الفاعلين الخارجيين وأذنابهم في الداخل، لأنها تهدد مستقبل وجودهم.
إن الرغبة في لفت الانتباه، والتطبيل على أن المسار الجديد ذهب في اتجاه معاكس لاتجاهات سابقة، وتقديم العروض بصيغة صنع سياسات جديدة، وحضور مجالس العزاء المقامة للمغدورين من المتظاهرين الأبرياء، والناشطين المدنيين والعامة، واحتضان أبنائهم ومواساة ذويهم، كلها سلوكيات يمكن أن يقوم بها شيخ عشيرة ومحافظ محافظة ومختار حي أو قرية. أما أن يقوم رئيس الوزراء بهذا السلوك، بدون تقديم الجناة إلى العدالة بحكم مسؤولياته الدستورية، فإنه يأخذ دور الوجاهات الاجتماعية والمسؤولين المناطقيين، وبذلك لن يجد من يصفق له ويقول إن هنالك سلوكا سياسيا جديدا، بل سيجد من يقول إننا نسير على الطريق نفسه. فمن يريد أن يظهر نفسه أنه المنقذ للعراق والعراقيين، عليه أن يتسم بالشفافية التامة، وأن لا يتخذ من وسائل الخداع السياسي سبيلا له، كما أن رئيس الوزراء الحالي عليه مسؤولية أكبر، لأنه كان رئيسا لجهاز المخابرات، ويفترض أن تكون قاعدة المعلومات لديه أكبر، ويعرف جيدا طبيعة تحركات القوى السياسية والميليشياوية، وطريقة عملهم وكيف يستهدفون الناس.
إن الطلاق بين القول والعمل، رسم مسارا فاضحا على مدى السنوات الماضية، وأنتج شعارات لا جذور مادية أو معنوية لها على أرض الواقع. كما خلق حياة وهموما وكوارث ومظالم كبيرة في كل بقعة في أرض الوطن. فإذا كان رئيس الوزراء الحالي يريد أن يكون هو الحل، رغم أن الكثير من العراقيين يرون أنه جزء من المشكلة لانه ابن العملية السياسية، فإن ذلك يتطلب منهجا جديدا في أن يكون سلوكه السياسي متسما بالمصداقية والشفافية التامة، وأن يكون قادرا على وضع النقاط على الحروف، بدون مجاملة وحسابات سياسية، فمجاملة حفنة من الميليشيات على حساب شعب كامل تلك جريمة كبرى.
وسوم: العدد 900